لقد كان لهذه الخطابات الجماهيرية تأثيرٌ كبيرٌ تميَّز عن غيره من الثورات والمظاهرات التي شهدها الشعب العراقي على مدى سنوات الظلم والفساد الذي شهدته الجماهير في السنوات السابقة ,وذلك بتنوع الوسائط المستعملة في إنتاج خطاباته وتداولها مثل التواصل المباشر عبر خروجهم لساحات التظاهر وحملهم الشعارات المباشرة المنددة بالسياسات العميلة والفاسدة , فضلا عن شبكات التواصل الانترنيت التي عبَّر خلالها الجماهير الشعبية بمختلف ثقافاتهم عن حرياتهم المسلوبة وحقوقهم المغصوبة بمختلف الوسائط المتاحة سواء في التغريدات أو الفيس بوك أو الانستغرام أو اليوتيوب وغيرها.
إنَّ هذه الخطابات الشعبية الثائرة بما امتلكت من قوة التأثير والإصرار على التغيير موضوعات وقضايا لا حصر لها على طاولة البحث السياسي والخدمي والتعليمي، فكان نصيب الباحثين والمحللين السياسيين في تحليل تلك الخطابات كبيرا شَمل مختلف التخصصات السياسية والدينية والقضائية والاجتماعية والإعلامية واللسانية , وهذا ما يمكن أن يدرج أيضا في ساحة الخطاب البلاغي الثائر وله أثر كبير في مسار الصراعات وتوجيه تداوليات الخطابات الجماهيرية .
وأدى تعاظم دور هذه الخطابات الجماهيرية إلى مواجهة تحديات معرفية جمَّة ، لم تقتصر على الخطابات العمومية وتحليلاتها واستخلاص نتائجها ,لكنها تعدَّت ذلك إلى الأبعاد المنهجية المتعلقة بكفاءة أدوات التحليل , وعملياته , وإجراءاته المستعملة في تحليل هذه الخطابات ، كما شملت أيضا الأطر النظريةالمفسرة لعمل الخطابات الجماهيرية وأثرها في الفعل السياسي .()
ومن هذا المنطلق أخذ الناقد والباحث البلاغي الكبير الدكتور عماد عبد اللطيف على عاتقه إيجاد مصطلح بلاغي يشمل بلاغة المخاطب أطلق عليه ((بلاغة الجمهور))() وقصد بها المخاطب وردود أفعالِهِ التي ينتجها المستمع إثناء تلقيه الخطاب الأصلي الذي يستهدف خدمة المتكلم؛ فهو عنده الخطاب الموازي اللغوي وغير اللغوي الذي ينتجه ويلقيه في وجه المتكلم ليؤثر فيه ويضطره لتحيين خطابه, ومن ثم الاستماع إلى خطاب مضاد يعكس وجهه السلطوي الخفيّ أمام ذاته، وفي دائرة محيطه وما يتجاوزها، أي سلطة الخطاب الأصلي الذي تنتجه السلطة الحاكمة في مقابل سلطة الجمهور، وهو بدوره في زمن استجابات يشكل قوة مضادة وبالقدر نفسه ينتج معان ومواقف وآراء وتوجيهات ويسعى لنشرها وفرضها..()
ويرى الدكتور عماد عبد اللطيف إن مفهوم “بلاغة الجمهور”يمثلُ حقلاً معرفيًا، ينضوي تحته كمٌّ هائلٌ من مادة البحث وعددٌ لا نهائيٌ من الموضوعات، تشمل هذه الموضوعات الظواهر المرتبطة بالإقناع والتأثير في الاستجابات التي ينتجها الجمهور في فضاءات مختلفة؛ فمصطلح “بلاغة الجمهور” هو الحقل المعرفي الذي يدرس العلاقة بين هذه الاستجابات من ناحية ، والسلطة والخطاب من ناحية أخرى، وتطوير هذه الاستجابات لتكون استجابات بلاغية متنوعة سواء أكانت لفظية أم غير لفظية، فردية أم اجتماعية مكتوبة أم مسموعة أم مرئية، ويمكن القول ((حيثما وجدت استجابة جماهيرية، وجدت بلاغة الجمهور، بوصفها مادة، وحيثمامارست استجابات الجمهور من منظور الإقناع والتأثير وجدت بلاغة الجمهور بوصفها علمًا))().
وفي هذا الصدد ميّز الدكتور عماد عبد اللطيف بين ثلاثة أنواع()من استجابات الجمهور هي:
(1) الاستجابة الآنية المباشرة.
(2) الاستجابة الآنية غير مباشرة.
(3) الاستجابة اللاحقة.
أما الموضوعات التي تُدرس ضمن إِطار بلاغة الجمهور فهي: ()
الخصائص اللغوية والبلاغية للخطاب غير السلطوي.
الأغراض التي يسعى الخطاب غير السلطوي لتحقيقها.
الاستراتيجيات والتقنيات التي يوظفها لتحقيق هذه الأغراض.
أثر نوع الخطاب (ديني- سياسي) والسياق إلى ينشأ فيه، وطبيعة العلاقة بين المتكلم والمخاطب مثل (حاكم، محكوم، واعظ، متدين).
دور المخاطب في عملية الاتصال.
أنواع المخاطب (نصيّ، فعلي).
طبيعة استجابة المخاطب (لفظية- غير لفظية، مباشرة، غير مباشرة).
وبعد استعراض ما تقدم يمكننا القول ان مصطلح “بلاغة الجمهور” يحيلُ على مفاهيم كثيرة، منها ما يشيرُ إلى نسق محدد من الأفكار والتصورات والإجراءات التحليلية تشمل مناهج مختلفة منها الأسلوبية والبنيوية التكوينية والمناهج النفسية وهذه رؤية أولى، أما الرؤية الثانية فتترتبط في التمييز بين المناهج الكمية والكيفية ؛وهناك مفهوم آخر يتعلق بسؤال الهوية البحت المرتبط بالمدونة ويستعمل مناهج منها الوصفي والتحليلي والمقارن().
ويخلص الدكتور عماد عبد اللطيف إلى رأي في ماهية مصطلح “بلاغة الجمهور” إنها جزء من مشروع بلاغي يهدف إلى تأسيس بلاغة الحياة اليومية تُعنى بدراسة الأبعاد البلاغية لنصوص البشر العاديين، وكلامهم، واستجاباتهم في شتى مناحي الحياة، فإن هذا المشروع مازال في طور التشكيل وما زال من المبكر جدًا تقييم جدارته بأن يتحول إلى مدرسة بلاغية().
وبلاغة الجمهور بعدها مستوى من مستويات التحليل البلاغي يختصُ بدراسة استجابة الجمهور للخطابات العمومية فهو يشمل:
أولا: خطاب ينتجه المتكلم له مادته ووظيفته، ولذا له بلاغته التي تعينُ هذا المتكلم وتسُهم في إنجاح خطابه وقد أخذت نصيبها من الدرس البلاغي العربي والغربي وهي (البلاغة الإنشائية) بلاغة المتكلم أو المنتج.
ثانيا: خطاب ينتجه المخاطب فهو ليس خطاب فهم كما تقول بذلك النظريات التأويلية أو خطاب تعليق… بل هو خطاب مادته الخطابات الجماهيرية وموضوعية دراسة الكيفية التي تستخدم بها هذه الخطابات اللغة لتحقيق الإقناع والتأثير.
أما وظيفة(بلاغة الجمهور)فهي الوعي بمقاومة الخطابات السلطوية وكشف استعمالها اللغة بوصفها أداة فاعلة للرد على هذه الخطابات .
وبهذا شكل مشروع بلاغة الخطاب/ الجمهور في الثقافة العربية المعاصرة ربطًا للدرس البلاغي بمفهومه الحيّ بخطابات الحياة اليومية، أي البحث في آليات الإقناع والتأثير في الخطاب الطبيعي القائم على الاحتمال، اعتمادًا على اجتهادات سخرت جهدها لتعبيد الطريق أمام البلاغة بربطها بهموم الإنسان, وتحليل الخطاب بمختلف أنماطه السياسي أو السردي والشعري()