مفهوم الهوية
تُعدُّ الهوية بمثابة بصمة الإنسان التي تجعل كل فرد إنساني يتغاير عن سائر أفراد الجنس البشري، ويصعب على المتتبع لمفهوم الهوية بإيجاد تعريف محدد لها؛ وذلك لما يعتري هذا المفهوم من التشعب الفرعي، والحضور المتعدد في حقول معرفية شتى، فلم يُلحظ في الحقل اللغوي على دلالة لغوية قارة لبنية الهوية، بل وُجدت ألفاظٌ تقترب من هيأة بنائها الشكلي.
والهوية لغة أُخذت من “هُويةٌ تصغير هُوة، وقيل الهويّة بئر بعيدةٌ المهواةِ، وعرشُها سقفها المُغمَّى عليها بالتراب، فيغترُّ به واطئُه فيقع فيها ويَهِلك”، جاء في الذكر الحكيم: ﴿وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ نَارٌ حَامِيَةٌ﴾، وهذهِ الدلالة اللغوية يراد بها البعد والغور وعمق القعر الذي يمكث فيه الإنسان ويهلك.
وعُرفت الهوية في الجنبة الاصطلاحية بـ”الحقيقة المطلقة المشتملة على الحقائق اشتمال النواة على الشجرة في الغيب المطلق، والهوية السارية في جميع الموجودات”، وتحتوي بنية الهوية على ثلاث دلالات مغايرة، وهي التشخّص والشخص نفسه والوجود الخارجي، وعُرفت الهوية عند اللغويين المحدثين بالحقيقة المطلقة المتجلّية في الموجودات والذوات التي تتضمن السمات الجوهرية المختصة بها، وهوية النفس الإنسانيّة يُراد بها السمات والخصائص التي تميّز الذات البشرية على سائر المخلوقات، وبطاقة الهُويَّة هي التي ينتسب الفرد بها إلى هو أي الكائن البشري ويعرف بها بسماته النوعية والمعرفية.
والهوية في الحقل الفلسفي هي ماهية أنطولوجية وجودية تتميز بطبيعة ذات دلالات متباينة، تمكنها من التجلي في عدّة خطابات معرفية، وعلى الرغم من الغموض الدلالي الذي يعتريها؛ فأنّها تتسم بالتمكن الإدراكي الذي يتجلى عبره فهم الوجود الكوني، وكشف ثنائية مضامين ذوات خطاب الأنا والآخر، فهي “حقيقة الشيء، من حيث تميزه عن غيره وتسمى أيضاً وحدة الذات”، وقد يرادف مصطلح الهوية مصطلحي الوحدة والوجود، والهوية هي علاقة منطقية بين شيئين مندمجين.
ويُراد بالهوية في الحقل الاجتماعي فرادة الإنسان على غيره، ورسم محددات ثقافية ومعرفية وسيكولوجية لذاتهِ الإنسانية؛ فـ”يشتق المضمون المعياري للهوية من مجموعة أوسع من المعايير الاجتماعية التي تنبع من مراكز عديدة للسلطة”، ويقصد بالهوية الاجتماعية سمات الذات الإنسانيّة، والخواص الفكرية والسلوكية التي تمنح للإنسان من أفراد محيطه الاجتماعي، والانتماءات الأخرى التي تنضوي في دائرة مجتمعه، فـ”لكل فرد في المجتمع له هوية وهذه الهوية هي التي تحدد مكانته داخله، وفي ضوئها يمارس حريته ويتمتع به، ويتأثر ويتبادل الخبرات والثقافات”، فتضفي الهوية الاجتماعية على الفرد الإنساني في ظل دائرته المكانية التي يعيش فيها ضرباً من الشعور الذاتي والسلم الأمني والتوازن النفسي المتزن.
يقوم جوهر الكيان الإنساني على تباين وتميز سمات الهويات الثقافية؛ فينطلق أفراد المجتمعات البشرية من هويات مرجعية مغايرة، كهوية السمة الفيسيولوجية لبنية الجسم البشري، ونوع السلالة، ونوع العرقية، والقومية، والجنوسة، والهوية العقدية، وهوية تفضيل السلوك الثقافي، والهوية السياسية، فلا قيمة للإنسان في محيطه الاجتماعي من دون هويات مرجعية ينتمي إليها في حركته الفكرية والشعورية والسلوكية، فهي تعرف الأفراد بطبيعة واقعهم الثقافي والفكري والسلوكي ضمن دائرة المجموعات البشرية التي تشاركهم تلك الخصائص الثقافية، فـ”ينطوي الشعور بالهوية على مجموعة من المشاعر المختلفة، كالشعور بالوحدة، والتكامل، والانتماء، والقيمة، والاستقلال، والشعور بالثقة المبني على أساس من إرادة الوجود”، وتتجلّى مصاديق الهوية بتمثلات ثقافية متباينة من أبرزها؛ اللغة التي يتواصل بها أفراد المجتمع، والاعتقاد الديني الذي يؤمنون به، والمرجعيات الثقافية التي ينطلقون منها في حقولهم المعرفية، والنمط النفسي المحدد بطبيعة سلوكيات أفرادهم.
وتقسم الهويات من منظور مقومات نشوئها على ثلاثة أضرب، وهي الهوية (المشرعنة) التي تنطلق من المؤسسات الاجتماعية الفاعلة في المجتمع وقد تضفي عليها هذه المؤسسات ديمومة البقاء والمنهج العقلي، والهوية المقاومة التي تحدث عبر النشطاء الذين يؤدون دوراً فعالاً في مواقعة مؤسسية فاعلة، فهم يقاومون كل شيء يحاول الهيمنة عليهم والمساس بوجودهم الواقعي، بآليات ومبادئ غيرية ضد الهويات المهيمنة، والهوية المصممة التي يقوم منتسبوها الفاعلون بتأصيل تصورات ومبادئ ثقافية تمكنهم من لعب دور حقيقي في المجتمع، وتعرفهم إزاء الهويات الغيرية، وقد يعمل رواد هذه الهوية على تغيير مسارات بنية المجتمع بصورة كلية، وتُعدُّ الهوية من أبرز عناصر علامات النسق الثقافي، فمثلما أن التنوع البشري ينطلق من نوع واحد ثم تباين في تنوعه الخلقي؛ فإن تمثلات هذا التعدد البشري قد تعددت هوياتها، إذ يمثل الإنسان ذاته عبر نمطه ولغته وعرقه ووطنه الذي ينتسب إليه، ويعبر عن نفسه أيضاً عبر قبيلته وطائفته التي نشأ فيها.
بقلم ضياء ريحان السعيدي