مقالة بعنوان
 
           الانتخابات في العراق خلال عهد الاحتلال العثماني 1839-1876
                                     (قوانينها وأنظمتها)
 
ا. د.  فلاح حسن كزار:- جامعة كربلاء/ كلية التربية للعلوم الإنسانية/قسم التاريخ
 
                     اميل : falah72.a@uokerbala.edu.iq
                          موبايل:       07711911040  







                                                 2025



  خضع العراق للسيطرة العثمانية عام 1534 بعد القضاء على الحكم ألصفوي وبقي تحت نفوذها حتى عام 1918، وقد لوحظ خلال هذه الحقبة التاريخية الطويلة إن إدارة شؤونه السياسية والإدارية تراوحت في بداية الأمر بين نفوذ سلطات عددا من العشائر المحلية التي كانت تعلن عصيانها وتمردها ضد الدولة العثمانية ، ومابين السلطات التي ينتدبها السلطان العثماني لإدارة شؤون المناطق( كالانكشارية ) ، (والسباهية ) لاسيما خلال المدة (1534-1831).
   بعد عام 1831 بدأ عهد جديد من تاريخ العراق الحديث تمثل بخضوعه للسيطرة العثمانية المباشرة أو المركزية بعد قضاء الأخيرة على نفوذ الانكشارية والسباهية  من جهة، ونفوذ الأسر المحلية  الحاكمة التي كانت تتولى  مهمة إدارة شؤون مدن العراق كالمماليك في بغداد  والجليلين  في الموصل  من جهة ثانية، و قيام السلطان العثماني بتعيين الباشوات  بفرمان منه على ايالة بغداد بعد أن ضمت  ايالة البصرة إليها  ، وقد تزامن ذلك مع حركة الإصلاحات العثمانية التي عرفت بعهد (التنظيمات) التي تأثرت بشكل كبير بالنظم والقوانين الأوربية. 
 استهل هذا العهد بإدخال (نظام المختارين) حيث أصبح المختار ممثلا شبه رسمي  للحكومة المركزية  ،- والذي كان قد طبق في إحياء وقرى العاصمة العثمانية استانبول  منذ عام 1829- ،لكن ما لبث ان دخل ايالة بغداد عام 1833  وطبق فيها عام 1835 اذ جرى اختيار المختارين لمناطقها وأحيائها وقراها ، واختير لكل محلة مختارين (مختار اول ومختار ثان)  بحسب عدد نفوس القرية ، غير ان الملاحظ بأن إلية الاختيار جاءت بطريقة التعيين حيث تم تنصيب اولئك المختارين من قبل الوالي العثماني، ولم يراع في ذلك مفهوم الانتخاب الذي يعبر عن رغبات الأهالي في اختيار ممثلي مناطقهم ومحلاتهم لاسيما إذا ما علمنا بأن أولئك المختارين كانوا من الوجهاء والأثرياء الموالين للسلطة العثمانية والمنتفعين منها والساعين للحفاظ على مصالحهم وامتيازاتهم الخاصة ، كما طبق هذا النظام في العام ذاته في ايالة البصرة لكن تأخر تطبيقه في ايالة الموصل نتيجة لاضطراب الأوضاع الداخلية فيها آنذاك بعد القضاء على حكم الأسرة  الجليلية  فيها.
   منح أولئك المختارون بعض السلطات  – نوعا ما- ،إذ أدوا دور الوساطة بين الأهالي والحكومة القائمة ،كما وكلت إليهم مهام الاحتفاظ بسجلات الأحوال المدنية لسكان إحيائهم  ،وتسجيل الأحوال الشخصية واثبات ملكية العقارات وإصدار وثائق حصر الوراثة ، فضلا عن مسائل أخرى تتعلق بعقود الزواج ومعاملات الطلاق.
    في عام 1837 بدأت ملامح مظاهر الإصلاح تتضح من خلال  كثرة إنشاء المجالس الاستشارية والتنفيذية،ومن أهما (المجلس الأعلى للتشريعات)، الذي كانت مهمته الأساسية وضع التشريعات القانونية فضلا عن صلاحياته في التحكيم القضائي والإداري . 
     توج ما يعرف بعهد التنظيمات العثمانية بصدور مرسومين إصلاحيين الأول، عرف باسم( خط شرف كولخانة  الصادر في الثالث من تشرين الثاني 1839) ، الذي نص على تشكيل مجلس إدارة لايالة بغداد يضم عددا من كبار موظفي الايالة بالإضافة  الى عددا من وجهاء واعيان الايالة من المسلمين وغير المسلمين على ان يعمل جميعهم تحت رئاسة والي الايالة ، وكان الهدف من تشكيله مراقبة إعمال الإدارة الحكومية و معالجة المشكلات التي تواجهها، وعليه وفي  أواخر عام 1840 شكل والي بغداد (علي رضا باشا اللاظ) مجلسا اطلق عليه اسم (مجلس الشورى) ، ليساعده في إدارة شؤون الإيالة. وقد تألف هذا المجلس- الذي كانت وظيفته استشارية- من كبار الموظفين الإداريين ، وقادة عسكريين، ومن كبار التجار في مدينة بغداد، وممثلين عن الطائفتين اليهودية والمسيحية، وكانت مهام  هذا المجلس موزعة على ثلاثة لجان، لغرض مناقشة القضايا التي تخص الإيالة وهي: (أ) لجنة المالية والأعمال الهامة. (ب) لجنة الأعمال المدنية والشرعية،   (ج) اللجنة العسكرية، وكان المجلس يعقد اجتماعاته بواقع ثلاثة أيام في الأسبوع في مقر الوالي وتحت إشرافه، وكان المجلس ملزماً بتقديم تقرير شهري عن ملخص أعماله الى العاصمة استانبول ، غير ان الملاحظ هنا بأن جميع أعضاء هذا المجلس  قد تم  تعينهم وليس انتخابهم واختيارهم من قبل الأهالي.
     فضلا عن ذلك فقد اشار  مرسوم خط شريف كلخانة -السابق ذكره- الى تحديد رواتب ولاة الايالات ومن دونهم من الموظفين الادارين ابتداء من الأول من آذار عام 1840 في محاولة لإلغاء العمل بنظام الالتزام، وفي عام 1845 سعت الدولة العثمانية لخوض تجربة جديدة في حكم وإدارة ايالاتها والتي تمثلت بتشكيل مجالس إدارة في مراكز الإيالات التابعة لها، إلا أن ذلك الأمر لم يطبق في إيالة بغداد إلا في عام 1851 ، وتولى رئاسته موظفا كبيرا معين من قبل السلطان العثماني    ،وعلى الرغم من وجود هذا الموظف إلا إن  أعمال هذا المجلس كانت لا تتم إلا با شراف الوالي ، كما ضم أربعة عشر عضوا ، ستة منهم يتمتعون بالعضوية الدائمة، أما الأعضاء الباقون فهم عرضة للتغيير بشكل دوري، حيث تقوم حكومة الإيالة باختيارهم من بين كبار وجهاء الإيالة على أن يكون من ضمنهم عضو يمثل الطائفة اليهودية وآخر يمثل الطائفة المسيحية،فضلا عن وجود كاتبين ، والحقيقة ان اغلب هؤلاء الأعضاء لم يكن لهم رأي او تأثير داخل المجلس ،بل اقتصرت مهامهم على المصادقة على القرارات التي يصدرها الوالي ،بل ان كثيرا منهم اتهموا بأخذ رشاوى مقابل التصديق على بعض  القرارات.
    كما حاولت الدولة العثمانية تعزيز العلاقة بين مركز الدولة وايالاتها  من جهة ،و بين مركز الدولة وأهالي الايالات من جهة ثانية ،وذلك من خلال دعوتها لاثنين من وجهاء كل ايالة بصفة ممثلين عن أهاليها  للحضور للعاصمة استانبول بهدف تشكيل مجلس استشاري ينظر في مشاكل الايالات وإداراتها الحكومية، وقد تم تشكيل هذا المجلس لكن عمله لم يدم إلا شهرين فقط، اذ سرعان ما تم حله وإلغائه  واستعيض عنه بلجان التفتيش والتي سميت بالمجالس الاعمارية  بهدف تحسين أداء الإدارة المدنية، وفي  آذار عام 1851 تم تشكيل ما يعرف (بالمجلس الكبير) في ايالة بغداد لغرض مراقبة الإعمال الإدارية فيها والعمل على معالجة المشاكل التي تواجهها ،وانيطت مهمة رئاسته بوالي الولاية وعضوية عددا من كبار موظفي الولاية  فضلا عن بعض وجهائها ،غير ان إعمال هذا المجلس كانت لا تتم إلا بإشراف والي الايالة، واقتصر عمل أعضائه على توقيع التقارير التي تصل إليهم دون معرفتهم بمضامينها،لذا يمكن القول بان هذا المجلس كان عديم الفائدة بالنسبة للعراقيين لاسيما إذا ماعلمنا بأنه لم يتم اختيار أعضائه من قبل عامة الناس بل لم يسمح لعامتهم أيضا بالانضمام إليه والمشاركة في إدارة بلدهم  .
   أما مرسوم الإصلاح الثاني والذي عرف باسم (خط همايون الصادر في الثامن عشر من شباط  1856) والذي عد مرسوما إصلاحيا مكملا للمرسوم الأول ،وتضمن احد عشر بندا ،عززت  الإصلاحات  الواردة في مرسوم الإصلاح الأول لاسيما في مجال المساواة بين الإفراد وإلغاء التمييز القائم على الاختلاف في الدين او اللغة او العنصر ،فضلا عن شموله إصلاحات في الإدارة والاقتصاد والمحاكم فضلا عن إشارته إلى احترام الحريات العامة بغض النظر عن المعتقدات الدينية والعنصرية ،والملاحظ على كلا المرسومين بأنه رغم تأكيدهما على مسألة المساواة بين الرعايا العثمانيين وإطلاق الحريات العامة، الا إنهما لم يشيرا  بشكل واضح وصريح الى موضوع الانتخابات واختيار حكام تلك الايالات من قبل أبنائها ، بل جاء التأكيد فيهما على ان السلطان هو من يتولى مسألة  تعيين وتنصيب المأمورين(الولاة)  في الايالت كافة.
    ارتبط مفهوم الانتخابات  بشكل أكثر وضوحا مع مفهوم ومضمون الإصلاحات الإدارية التي  شرعت الدولة العثمانية بتطبقها لاسيما إصدارها قانون الولايات  في الثامن  من تشرين  الثاني عام 1864 والذي استبدل اسم الايالة  باسم  الولاية وأصبح بموجبه العراق مقسما الى ولايتين هما(بغداد والموصل) ،فضلا عن تقسم كل ولاية إلى عدد من الالوية والاقضية والنواحي والقرى ، وكان الهدف من إصداره تنظيم عملية اشتراك الأهالي في إدارة أمور البلاد بالتعاون مع السلطات القائمة والهيئات الإدارية المختلفة،وربط الإدارات القريبة في الولاية بمقر الوالي ،وربط الولايات جميعها ربطا منظما بالحكومة المركزية في العاصمة استانبول،وقسم القانون إلى ثلاثة أقسام (التقسيمات الإدارية، والمجالس المحلية، والسلطات القضائية) ، غير إن إن هذا القانون وما تضمنه من مواد لم تطبق في إيالة بغداد حال إصداره، وإنما تأخر تطبيقه إلى سنة 1869.
   ان نص القانون وبشكل صريح على اشتراك الأهالي في توجيه أمور البلاد مع الموظفين استوجب استحداث مجالس إدارية في مركز كل ولاية  ولواء وقضاء وناحية وقرية ، وقد اتخذت هذه المجالس شكلا هرميا مثل قاعدته مجالس الاختيارية السابقة،في حين مثل المجلس الكبير (مجلس الولاية العمومي) قمته،ويمكن وصف آلية الانتخاب لتلك المجالس بالاتي:-
  • المجلس الكبير(مجلس الولاية العمومي):-ضم كل من والي الولاية رئيسا – وهذا يعين من قبل السلطان العثماني- ، اما أعضاء المجلس فكانوا ينتخبون بواقع اثنين من الأهالي،كما ضم مندوبين من الأسر العشائرية المتنفذة وممثلي الإدارات الحكومية وبعض إشراف الولاية، على أن يجتمع مرة كل عام ومدة اجتماعه أربعون يوما، ومهمته تقديم خدمة للأهالي و دراسة أساليب تنمية الشؤون الاقتصادية والتجارية ومناقشة ما يقدمه الوالي من اقتراحات بشأن الولاية، وعلى الوالي الاستماع إلى أراء وقرارات أعضاء المجلس ،غير انه غير ملزم بالأخذ بها أو تنفيذها وما عليه إلا رفعها للعاصمة واستانبول وانتظار الأوامر السلطانية بخصوصها، وقد خصص لكل عضوا من أعضائه راتبا خاص كي لا تكون الحاجة الى الأموال سببا في تهديم الغرض الأساسي الذي انشأ من اجله ، والحقيقة  الواضحة هنا هي أن أعضاء هذا المجلس لم يكن لهم أي دور يذكر،بل اقتصر دورهم في الموافقة  على ما يتخذه الوالي من قرارات.
  • مجلس إدارة اللواء:-وكان برئاسة متصرف اللواء،وأعضاء دائمين بنسبة ثلاثة من الأهالي المسلمين، وثلاثة من غير المسلمين،ومهمته النظر في شؤون الملكية والمالية و الضابطية و التحصيلية و النافعة و الطابو والشؤون الزراعية والمحافظة على الأموال العامة.
  • مجالس الاقضية والنواحي:-تشكل في كل قضاء مجلس إدارة ضم ثلاثة من الأهالي المسلمين وثلاثة من غير المسلمين وجميعهم ينتخبون من قبل الأهالي إضافة الى عضوية عدد من موظفي القضاء،اما مجلس إدارة الناحية فلم يرد له ذكر في قانون إدارة الولايات لعام 1864 بينما تم ذكره في قانون إدارة الولايات العمومية لعام 1871، إذ  أشار إلى انه يتكون  من  مدير الناحية بصفة رئيسا  له  وعضوية أربع أعضاء من مجالس الاختيارية في القرى،ويتم تحديد موعد اجتماعاته من قبل قائمقام القضاء بنسبة أربع اجتماعات في السنة  في مركز القضاء، على أن لا يتجاوز مدة عقد كل اجتماع أسبوعا واحدا ،وقد تميز هذا المجلس عن غيره من المجالس المذكورة بان قراراته تتخذ بالأغلبية وهي ملزمة التطبيق من قبل مدير الناحية وقائمقام القضاء. 
وهكذا بقيت الأوضاع على ما هي حتى إعلان الدستور العثماني عام 1876.

شارك هذا الموضوع: