علي الوردي النشأة … وروافد بناءه الفكري المبكرة (الحلقه الثانيه)
بدأت رحلته الشاقة في مضمار الدرس والتعلم مع نهاية الحرب العالمية الاولى ، وهو ابن خمس سنوات ، معتمراً عمامة خضراء دلالة نسبه الشريف الى البيت العلوي ، حيث درس مبادئ القراءة والكتابة وشيء من الحساب ، الى جانب حفظه للقرآن الكريم ، في احدى (كتاتيب) الكاظمية في مسجد قرب دار أبيه()
 
استكمل بعد ذلك دراسته في احدى مدارس الكاظمية ، على الرغم من نظرة الريبة والازدراء من المجتمع المتخلف ازاء المدارس الحديثة أو كما اطلقوا عليها يومئذ بـ“المكتب” ، وهي نظرة من مخلفات العهد العثماني ، تركت اثرها الفاعل في عزوف العديد من ابناء المدن عن ارسال اولادهم الى المدارس()
 
لم يستكمل علي الوردي دراسته في المرحلة الابتدائية ، اذ اخرج من المدرسة في عام 1927 وهو في الصف الاخير من دراسته ، وزج به في دكان احد أقربائه ، ليتعلم عنده، وعلى حد تعبيره ، (فن العطارة) من بيع وشراء ، لقاء أجر شهري قوامه خمس ربيات  فقط()، بيد ان هذا التغيير المفاجئ والطارئ في مساره التعليمي لم يرقه ولم ينسجم معه ،  اذ وجد نفسه غريباً في وسط (العطارة) ، وما يتعلق بها من معاملات التسوق وتعاملات زبائنه()
 
فلا غرو اذ نجده مقتنصاً كل فرصة سانحة لولوج عالمه الخاص ، حيث المطالعة وقراءة الكتب داخل دكان العطار ، وهو أمر قوبل بالرفض والاستهجان من رب العمل ، مشدداً على ضرورة الاهتمام بأصول المهنة من إغراء وجلب للزبائن ، محذراً إياه في الوقت نفسه من مغبة التقاعس عن العمل ، والتوجه ، وعلى حد تعبيره ، نحو “قراءة لا تغني ولا تسمن“، متوعداً أياه بالطرد من العمل إذا استمر في نهجه هذا()
 
ضاق ذرعاً به صاحب الدكان ، فقرر الاستغناء عن خدماته ، فتنفس الوردي الصعداء لحرية طال انتظارها لسنوات خمس() . ناءت بأوزارها عليه الى حد وصفها بـ”أبشع فترة” في حياته ، بل و”مرارة لا حد لها” ، لاسيما انها وقعت وهو في خضم سني المراهقة وريعان الشباب ، مما زاد من معاناته وتأثره في هذه المرحلة الحرجة من عمره معاناة اضافية اثرت في تكوينه الشخصي تأثيراً كبيراً ، اكده وبصورة لا لبس فيها في احدى لقاءاته الصحفية اذ جاء فيها ما نصه : 
” لقد أمضيت في مهنة العطارة نحو خمس سنوات ، وكانت تلك أبشع فترة في حياتي … وكنت في تلك الفترة اجتاز مرحلة المراهقة والبلوغ ، وهي مرحلة ذات أهمية بالغة في نمو شخصية الانسان ، ولعلني لا أغالي اذا قلت بأن شخصيتي نمت على أساس من المرارة لا حد لها ” ()
 
اصطدم داخله التواق في الرجوع الى فصول الدراسة ومتابعة تعليمه برغبة أسرته العارمة في ضرورة ممارسة عمل يتكسب منه ويعيله في أمور دنياه ، وهوأمر أضطره على مضض ان يعود الى مهنة العطارة ، ولكن هذه المرة افتتح دكانه الخاص به ، فجمع بين المهنة والرغبة العارمة في القراءة() ، بل ووجد متسعاً لكتابة اولى مقالاته في موضوعات متنوعة ، أرسل العديد الى مختلف الصحف والمجلات البغدادية يومئذ ، متأثراً بما طالعه في هذه المدة من مقالات واخبار تناولتها الصحف والمجلات المصرية والشامية ، وحازت على اهتمامه الكبير “الهلال” و “المقتطف” و “الرسالة” و “الثقافة” ، بيد ان مقالاته تلك لم تلق اهتماماً من الصحافة العراقية ، ولم يجد الكثير منها طريقه للنشر()
 
استمر على هذا المنوال بين القراءة والكتابة ، حتى جاءت انعطافه تاريخية مهمة في حياته وذلك خريف عام 1931 ، تلك الانعطافة المتمثلة في عودته الى مقاعد الدراسة مرة اخرى ، عندما علم يوماً بافتتاح مدرسة ابتدائية مسائية في الكاظمية ، عندها قرر التسجيل فيها والانضمام الى فصولها الدراسية وملؤه حماسة وشغف بحب العلم ، ترجمه الى تفوق في الدراسة ، اهله الى استكمال دراسته الاولية في مرحلة المتوسطة ، فانتقل للدراسة في “متوسطة الكرخ() ، تاركاً دكانه ومهنة العطارة دونما رجعة ، مستثمراً أرباحه فيها في الانفاق على دراسته التي عدها تطوراً “ذا أهمية كبيرة” في حياته()
 

شارك هذا الموضوع: