كـربلاء… قـراءة فـي التسمـية و النشأة والتطور التاريخـي.(الحلقه الأولى) .
أ.د. علي طاهر الحلي
تعدّدت ألفاظُ تسمـية مدينة كـربلاء وفقاً للمـراحل التاريخـية التـي مـرّت بها بسبب خضوعها إلـى أقوام مختلفة، فقد سُمـيت بـ(كلاب آل) وقيل ( كور بالا) عند الآرامـيـين والأشوريـين وتعنـي حـرم الإله، كما سمـيت(كـرب – ايلا) و(كـربلاتو)() و(كـربلة)، وهو ما أكّده الأب أنستاس ماري الكـرملـي قائلاً“والذي قـرأناه فـي بعض كتب الباحثـين أنَّ كـربلاء منحوتة من كلمتـين من(كـرب) و(إل)أي حـرم الله أو مقدس الله”().
أمّا التسمـية العـربـية لها فهـي(كـربلا – كـربلاء) وقد اختلف اللّغويون والبلدانّـيون فـي تسمـية كـربلاء بهذا الاسم، فمنهم من ذهب إلـى أنّ اسمها عـربـي مشتق من (الكـربلة)() وهـي الـرخاوة، وذلك إشارة إلـى طبـيعة أرضها، ومنهم من قال إنّ اسمها أصله سامـي مأخوذ من الآرامـية أو البابلـية()، ولعلَّ هذا الـرأي أقـرب إلـى الصواب؛ لأَنَّ السامـيـين سكنوها وأطلقوا علـيها أسماءهم شأن المدن القديمة الاخرى.
وكان اسم كـربلاء الأصلـي فـي صدر الإسلام(كـربلا)، بدون الهمزة التـي أضـيفت فـيما بعد فـي الشعـر العـربـي، فـي حـين ذكـر الفـيـروز آبادي معانٍ متعددة لكلمة كـرب، منها((الحُزن والغَم الذي يأخذ بالنفس، وجمعه كـروب، وكـربَه الغَمُّ فاكتـرب، فهو مكـروب وكـريب))()
كما اشتهـرت كـربلاء باسم آخـر خلال العهد العثمانـي وهو(مشهد إمام حسـين) كما هي عند الفرس أو(مشهد الحسـين)، كما وردت تسمـية أخـرى لكـربلاء فـي وثائق الأرشـيف العثمانـي وهـي(كـربلاء المعلا)().
ومن الجديـر بالذكـر أنَّ من أقدم النصوص التـي وصلت إلـينا وذكـر فـيها اسم كـربلاء، هو قول معن بن أوس المزنـي وهو من شعـراء الجاهلـية المخضـرمـين حـيث أورد ياقوت الحموي شعـر المزنـي فـي مادة“النوائح“ ما نصّه():
إذا هـي حلَّت كـربلاء فلعــــــلَعا
فجوز العُذيب دونها فالنَّوائحا
وبانت نواها من نواك وطاوعت
مع الشانئين الشانئات الكواشحا
كما اتفقت المصادرُ التأريخـيةُ علـى أنَّ كـربلاء هو الموضع الذي قتل فـيه الإمام الحسـين بن علـيعليه السلام) فـي طـرف البـرّية عند الكوفة، كما روي أنَّ الإمام الحسين عليه السلام) حـينما وصل إلـى كـربلاء.. سأل”فما اسم هذه الأرض التـي نحن فـيها؟” فقيل: “أرض كـرب وبلاء”
وفـي رواية أخـرى”فدمعت عـينا الحسين علـيه السلام) حـين ذكـر كـربلاء، وقال: اللّهم إنـّي أعوذ بك من الكـرب والبلاء“().
وأرضُ كـربلاء المقدّسة أرضٌ مباركةٌ وصفها الـرسول الأكرم صلـى الله علـيه وآله وسلم)كما فـي رواية الإمام الصادق(علـيه السلام) عن آبائه عن أمـيـر المؤمنـين علـي(علـيه السلام) إنّه قال: “إنّها البقعة التـي كان علـيها قبّة الإسلام التـي نجـى الله علـيها المؤمنـين الذين آمنوا مع نوح فـي الطوفان”()، وذكـرها أمـيـر المؤمنـين علـي(علـيه السلام) قائلًا: ” طوبـى لكِ من تـربةٍ علـيكِ تُهـرقُ دماءُ الأحبّة“()، ومن هذه الأحاديث ما روي عن الإمام جعفـر بن محمّد الصادق(علـيه السلام) حـين قال: “إنّ الحسين قتل مكـروبًا، وحقـيق علـى الله أن لا يأتـيه مكـروب إلّا ردَّه الله مسـرورًا“، () ومنها قولُه (علـيه السلام) عن بشير الدهان قال : “سمعت أبا عبدالله(علـيه السلام) يقول: وهو نازل بالحـيـرة وعنده جماعة من الشـيعة فأقبل إلـيَّ بوجهه فقال: يا بشـيـر أحَجَجت العامّ؟ قلت: جُعِلتُ فِداكَ لا، ولكن عـرّفتُ بالقبـر” قبـر الحسـين علـيهالسلام، فقال: “يا بَشـيـر والله ما فاتك شـيءٌ ممّا كان لأصحاب مَكّة بمكّة، قلت: جُعِلتُ فِداكَ فـيه عـرفات؟ فَسـّره لـي“، فقال: “يا بشـيـر إنَّ الـرجل منكم لـيغتسل علـى شاطـىء الفـرات، ثمَّ يأتـي قبـر الحسـين علـيهالسلام عارفاً بحقِّه فـيعطـيه اللهُ بكلِّ قدم يـرفعها ويضعها مائة حَجَّة مقبولة ومائة عُمـرة مَبـرورة“، ونصٌّ آخـر يقول: “زيارة قبـر جدّي الحسين (عليه السلام) تعدلُ حجّةً وعمـرة“()
ومنها أيضًا: قول ابن إسحاق بن محمّد بن عبدالله المـرادي عن أبـيه: “أتـيت قبـر الحسين (عليه السلام)، فغلبتنـي عـينـي فأغفـيت عنده إغفاءة، فسمعت قائلًا يقول: قوموا فإنَّ لغـيـركم حاجة فـي هذا القبـر. قال: فحججت فلقـيت جعفـر بن محمّد(علـيه السلام) فسألته عن ذلك فقال: أو ما علمت أنَّ الله سبحانه أوكل بقبـر الحسين (عليه السلام) أربعة آلاف ملك من الملائكة شعثًا غبـرًا يبكونه إلـى يوم القـيامة“() وهذا ما ساهم فـي جعل كـربلاء المقدّسة لاسـيما بعد واقعة الطف وبعد أنْ أصبحت مثوىً ومـرقدًا لسبط الـرسول الأعظم الإمام الحسين (علـيه السلام) وأن تكون مـركزاً حضارياً ومـركزاً رئيساً للأشعاع العلمـي والفلسفـي والفنـي والأدبـي وملتقـى الفكـر والإبداع فكانت ملتقـى لأهل العقل والأدب للتحاور وتبادل المعارف والخبـرات..، كما وردت فـي فضل ومكانة هذه المدينة الخالدة كثـيـر من الأحاديث والـروايات فـي أفضلـية وأهمـية زيارة كـربلاء المقدّسة سواءً عن طـريق أحاديث الأئمّة الأطهار(علـيهم السلام) أنفسهم أم عن غـيـرهم.