ظهور الملكيات الخاصة في العصر الاموي واثرها على بيت المال
ظهور الملكيات الخاصة في العصر الاموي واثرها على بيت المال
ا.د عبير عبد الرسول محمد التميمي
يعد عامل الاختلاسات والسرقات الحكومية , من اهم العوامل التي لعبت دورا في خفض نسبه الوارد الى بيت المال خلال القرن الاول الهجري , وقد بدأت اثار ذلك تتضح منذ نهايات القرن, وتعود جذور هذه المشكلة الى تاريخ مبكر في الاسلام , وذلك منذ ان سمحت الخلافة بظهور الملكيات العربية الخاصة, وتوسيعها على حساب اراضي الفيء ( اراضي الخراج ), وقد كان لنمو الغير طبيعي لهذه الملكيات طرق كثيرة منها : الشراء او الاقطاع او الإلجاء او الغصب او عن طريق وراثة الولاء , وقد كان مثل هذا النوع من الاراضي يعفى من ضريبة الخراج بفعل امتلاك العرب لها , مما أضر بالتالي بمقادير مال الفيء .
ولما كان لظهور الملكيات العربية الخاصة طرق كثيرة , فإن ابرز هذه الطرق على ما يبدو كانت عمليات البيع والشراء ويتضح من ذلك كراهية بعض الفقهاء لشراء ارض الخراج .
ولكن على الرغم من ذلك فإننا نلمس تهاون مؤسسة الخلافة حيال هذه المسالة , حيث يقف الخلفاء الامويين امام ازمة شراء الارض الخراجية من قبل العرب, بل أبيح شراؤهم لها اذ تشير الروايات الى شراء بعض العرب للأراضي الخراجية .
اما الروايات التي ذكرت منع او كراهية شراء الارض الخراجية فانها لا تنفي , وقوع البيع والشراء فعلا فقد ذكر رأيه في شراء الارض الخراجية ولم يحرمها , في الوقت الذي لم يعترف بصحة وقوع العقد شرعا , وقال: (( ما قول انه ربا ولا اقر به )).
كما يفهم من بعض الروايات ما يؤكد على معارضه كثير من الفقهاء للتوجه الذي كان سائدا نحو اباحة شراء الارض الخراجية وسعيهم لحل هذه الأزمة المالية وذلك بالتأكيد على عدم جواز تحويل الارض الخراجية الى عشرية , ولعل هذه الآراء تعبر عن القاعدة التي استقرت في اواخر القرن الاول الهجري نظرا لتقديم حلولا جذرية وذلك بإن من يملك ارضا خراجية يدفع خراجها بغض النظر عن دينه او اصله , وذلك بعد ان قل وارد بيت المال بفعل كثرة عمليات البيع والشراء , ولأجل معالجة تداعيات هذه المشكلة على بيت المال نرى الحجاج يفرض الخراج على بعض الملكيات العربية التي هي في الاصل خراجية فذكر القرشي : (( وبالفرات ارضون اسلم اهلها عليها حين دخلها المسلمون وارضون خرجت من ايدي اهلها الى قوم مسلمين بهبات وغير ذلك من اسباب الملك فأصبحت عشرية وكانت خراجية فردها الحجاج الى الخراج )), ولعل نقص وارد العراق في ايامه وثوره اهل العراق عليه جعله يضطر الى فرض الخراج عليها وربما اراد وقف شراء الارض الخراجية لأنها تتحول الى عشرية .
ويبدو ان هذه المشكلة قد تفاقمت حتى بلغت اوجها في خلافه عمر بن عبد العزيز حيث ينسب اليه عده اجراءات في محاوله منه لتطويق المشكلة ومعالجتها فقام بإرجاع الملكيات العربية التي فرض الحجاج الخراج عليها الى العشر , وامر بمنع بيع الارض الخراجية, وبين ان من يمتلك ارضا خراجية يدفع عنها الخراج , ويبدو ان لإجراءات عمر دلالاتها الخاصة فهي تشير الى ازياد انتشار الاسلام من جهة والى كثرة الارض الخراجية التي انتقلت الى العرب المسلمين وصارت عشرية من جهة اخرى , والملاحظ ان قرار عمر لم ينفذ بعده كما يجب واستمر العرب المسلمين على شراء الارض الخراجية وتحويلها الى عشرية .
ويشكل الاقطاع احد ابرز الاسباب الهامة التي ادت الى تشكيل الملكيات العربية الخاصة, وتعود جذور الاقطاع الى عهد ما قبل العهد الاموي, اما في العصر الاموي فقد حصل توسع في منح الاقطاعات في خلافة معاوية سواء على يده او على يد عماله وولاته .
كما اقطع عبد الملك (26 هـ – 86 هـ / 646 – 705م), والحجاج (40 – 95 هـ / 660 – 714 م)، اقطاعات لأنصارهم ومؤيديهم , وكذلك فعل الخلفاء الامويون الذين جاءوا بعد ذلك , ومن الواضح ان الاقطاعات المذكورة كانت من الصوافي ومن الارض الموات على ايدي الخلفاء والامراء , وقد ازدادت ظاهرة نشوء الملكيات الخاصة في ايام ثورة ابن الاشعث (82هــ/7801م ) فقد قامت القبائل بإحراق ديوان الصوافي , وضاعت الحسابات فأخذ كل قوم ما يليهم .
وكان الالجاء من اسباب تكون الملكيات العربية الخاصة, وقد وردت امثلة له من عهد بني امية, فمنها : ان الناس الجأوا الى مسلمة بن عبد الملك ضياعا كثيرة في منطقة البطائح للتعزيز به .
والجأ اهل المراغة احدى قرى اذربيجان ارضهم الى مروان بن محمد , وكذلك الجأ كثير من العجم في اذربيجان قراهم الى العرب الذين نزلوا بتلك الولاية للخفارة , وصار اهلها مزارعين لهم , وعلى الرغم من قلة هذه الامثلة , الا ان ذلك لا يمنع حدوث غيرها , كما ان قلتها تظهر ان الإلجاء لم يكن واسعا نهاية الحكم الاموي, ويبدو ان بعض الناس كانوا يرثون بعض الاراضي من مواليهم , وان مولاه ابو الاسود الدؤلي ماتت وكان لها ضيعه يتولاها عبدا لها فورثها ابو الاسود , وطرد العبد الذي كان يتولى الضيعة, واخذها له كما كان التسلط والغصب والنفوذ والاستغلال سبيلا الى التملك خاصة للعمال والمتنفذين وذوي الصلة بالخليفة .
وعلى اي حال فقد كان لظهور الملكيات العربية الخاصة في زمن الراشدين وتوسعها ونموها في زمن الامويين اثارا خطرة على بيت المال , ذلك ان اول ما يلاحظ على هذه الملكيات انها ساعدت على احداث ازمة كبيرة للخزينة , ومن الممكن توضيح ذلك من خلال الاعتماد على ان مؤسسة بيت المال كان يستند اساسا الى موردين هامين , هما الجزية والخراج , وقد نقص وارد الجزية , بفعل انتشار الاسلام بين اهل الذمة , بالإضافة الى ان وارد الخراج قد بدأ يتناقص ويتراجع نتيجة انتقال الارض الخراجية الى العرب , وتحولها بأيديهم الى ملكيات معفاة تماما من ضريبة الخراج واقتصارهم على دفع العشر, (( واذا كانت ضريبة الارض العشرية تبلغ 10% من الحاصل فان ضريبة الارض الخراجية لا تقل عن الربع وقد تصل الى (40-50 %) منه , وهكذا ندرك تماما مقدار الخسارة والضرر الذي بدأ يصيب بيت المال وازدياد حدته مع مرور الوقت .
وامام هذه التحديات كان لابد للدولة من إعادة رسم سياستها من جديد , فقامت بإجراءات إصلاحية تهدف الى انقاذ الوضع المتدهور لمؤسستها المالية, فعملت على وقف الاقطاعات من ارض الصوافي , وحاولت اقطاعها على سبيل الاستغلال فقط , ويتضح ذلك من رسالة عمر بن عبد العزيز الى احد عماله بشان ارض الصوافي ,حيث كتب له قائلا : (( انظر ما قبلكم من ارض الصافية فأعطوها بالمزارعة بالنصف, ومالم تزرع فأعطوها بالثلث , فان لم تزرع فأعطوها حتى تبلغ العشر فان لم يزرعها احد فامنحها , فان لم يزرع فإنفاق عليها من بيت مال المسلمين ولا تبتزن قبلك ارضا ً)) .
كما قامت الدولة بإيقاف اقطاعاتها بأراضي اهل الذمة وعقاراتهم , فقد رد الحجاج اراض عشرية في العراق الى الخراج , وذكر ابن عساكر ان الناس سألوا عبد الملك بن مروان بعد نفاذ ارض الصوافي ان يقطعهم ارضا من ارض الخراج فأبى عليهم ذلك , واقطعهم ارضا خراجية قد باد اهلها , كما نهى علماء الامة من شراء المسلمين لأرض اهل الذمة وتذكيرهم بصغار الخراج , مما يشعرنا بوقوف العلماء الى جانب الدولة في هذا الموضوع .
كما قامت الدولة بمحاربه تصرفات المتنفذين من رجالات الاسرة الاموية واتباعهم من القادة والعمال التي تمثلت بعمليات غصب او استغلال او تزوير لوثائق ملكيات الاراضي لأهل الذمة او التجائها اليهم ثم وقفت اخيرا ضد عمليات شراء الارض شيئا في محاوله لوقف شرائها .
وعلى الرغم من ان هذه الاجراءات الاصلاحية لم تتم مرة واحدة , الا انها شكلت مجتمعة , ومع مرور الوقت مجموعة اجراءات اصلاحية , كان هدفها المحافظة على هذه الاراضي من ظهور الملكيات العربية الخاصة على حسابها , الامر الذي وضع حد في النهاية من مقدرة العرب على تكوين اقطاعيات كبيرة ووضع حد ايضا _ الى حد ما _ من التأثيرات السلبية لتحول الاراضي الخراجية الى عشرية على خزينة بيت المال ,هذا وفقا للسياسة الاقتصادية في العهد الاموي .