هجرة الفلاحين الى الامصار واثره على اقتصاد الدولة الاموية
ا. د عبير عبد الرسول محمد التميمي
ان هذه المشكلة كانت تضرب بجذورها منذ ايام الفتح العربي الاسلامي , وذلك بعد ان بدأ بعض اهالي السواد ينزحون عن قراهم الاصلية صوب الامصار( المدن الجديدة ) , غير ان مشكلة هجره الفلاحين كأحد الاسباب المهددة لخزينة بيت المال قد اخذت تطفو وتظهر بصورة واضحة منذ زمن الحجاج بن يوسف الثقفي , حيث ظهرت المشكلة في الامصار , واستمرت هذه الظاهرة الى ايام عمر بن عبد العزيز , وكان لظهور هذه الأزمة في البصرة اكثر منها من الكوفة , وذلك صلة بظروف البصرة التي ساعدها على ان تكون نقطة جذب للمهاجرين الجدد وموقعها الاقرب للحجاز وبلاد فارس .
ولقد لحقت هجرة الفلاحين الاعاجم الى الامصار , سيما في البصرة ضرراً بليغا ً في البلاد بصورة عامة, وادت الى حدوث ازمة اجتماعية واقتصادية واضحة تجلت مظاهرها في تراجع عمارة الريف وإدامة زراعته وكري سواقيه, و حرمت الاراضي الزراعية من الايدي العاملة فقل انتاجها وتدهورت اراضيها .
وهذا الامر بطبيعة الحال انعكس سوءً وأدى الى انخفاض مقدار الخراج , بالإضافة الى ان معظم هؤلاء المهاجرين كانوا من الداخلين حديثا الى الاسلام وكانوا ما ينتمون غالبا مع الثوار والمعارضين لانهم لم يجدوا الحرية والعدالة المنشودة من الطبقة الحاكمة واعوانها , ولهذا فقد كانوا عنصرا قلقا يهدد سلامه الدولة واقتصادها الهش .
وإزاء ذلك لم يكن امام الحجاج حيال هذه التطورات وما تحمله من انعكاسات خطيرة على واردات بيت المال, الا ان يتصدى لمعالجة ظاهرة انكسار الخراج التي نجمت عن هذه الهجرة التي وصفها بانها غير شرعية – من وجهه نظر السلطة- , ولم يكن الحل كما يفهم من خلال الاحداث الا بإبعاد المسلمين الجدد عن الامصار وإعادتهم الى قراهم , فذكرت الروايات ان عمال الخراج كتبوا الى الحجاج (( ان الخراج قد انكسر وان اهل الذمة , قد اسلموا ولحقوا بالأمصار فكتب الى اهل البصرة وغيرها ان من كان له اصل في قريه فليخرج اليها )) , وان الحجاج اخرجهم من البصرة والحقهم ببلادهم وارجعهم الى قراهم و فرض عليهم الخراج , ويظهر من خلال هذا الاجراء الذي اتخذه الحجاج انه كان محاولة لإعادة الايدي العاملة للأرض , كما يتضح انه كان اجراء معروفا وشائعا في ذلك الوقت فضلا عن تخلصه من خصومه السياسيين واعوانهم ومواليهم وذلك بإبعادهم وتشتيتهم واضعافهم .
والامر الذي يلفت الانتباه ان الاضطراب في الروايات حول ما ذُكر عن الحجاج من انه ألزم الذين دخلوا الاسلام الجزية , هو امر واضح وهو ناشئ عن خلط تلك الروايات بين قرار الحجاج الخاص بعودة اهل الذمة الى بلادهم , بقرار اخر ينص على اخذ الجزية ممن اسلم منهم , ومن خلال تتبع الروايات تبين ان الحجاج اخذ الجزية ممن اسلم بعد اعادتهم الى قراهم , يتأكد ذلك تماما ان الحجاج لم يأخذهم بالجزية (ضريبة الرأس) , بل اخذهم بالخراج , وهذا يكشف الحال السائد في العراق آنذاك من تدهور الاراضي الزراعية , وتراجع حجم الانتاج وبالتالي لمقادير الخراج , يؤكد ان حاجة للخراج اكبر من ضريبة الجزية , خاصة وان الرأي القائل بإن اسقاط الجزية عنهم بدخولهم الاسلام , اثر وشكل ازمة كبيرة في بيت المال فيه مبالغة , وذلك ان ما يدفعه هؤلاء الفلاحون الذين اسلموا من جزية يعد قليلا جدا بالمقارنة مع حجم ما كان يرد الى خزينة الدولة من ضريبة الخراج وبالتالي فأن التأثير على بيت المال كان في نقص الخراج ,وذلك لتأخير عمارة الارض بسبب هجرتهم عنها .
وهكذا يتبين لنا ان تدهور الخراج وانكساره , وارتباط ذلك بحالة الزرع , وما رافقه من نقص في الايدي العاملة, وتراجع في حجم الانتاج بتأثير الهجرة , وهو الذي جعل الحجاج يرسم سياسته القاضية بإرجاع الفلاحين الى قراهم وذلك من اجل القضاء على نتائج وتداعيات هذه الأزمة التي تمثلت بالهجرة على ماليه الدولة , اما ما يقال عن خوف الحجاج من نقصان وارد الجزية نظرا الى اسلام اهل الذمة , فهذا الامر لم يكن بالحسبان عند الحجاج او الخلافة , والا فما الذي يمنع الحجاج من فرض الجزية ( ضريبة الراس ) على المسلمين الجدد في الامصار( المهاجرون ) دون الحاجة الى اعادتهم الى قراهم , اذن فهذه الأزمة كانت اكبر واعقد واخطر من كونها مسالة جزية رأس سواء فرضت بالفعل ام لم تفرض , وكان بمكان الخلافة وولاتها ان تقدم حلولا ناجحة وجذرية للمسألة من الجباية اليسرة وملاحظة كمية الناتج وتقديم القروض لأصحاب الاراضي والمزارعين , ومساءلة التوزيع العادل للأموال والثروات المتحصلة من الموارد الاخرى , واشراك التجار في حل هذه الأزمة بتقديم لهم تسهيلات خاصة مقابل مساعدتهم للمزارعين وامور اخرى كثيرة اكد عليها الاسلام وفصلها في نواحي عدة .
لم تقتصر التدابير المتعلقة بمعالجة ازمة هجرة الفلاحين الى الامصار على البصرة او العراق وحدها , وانما يتضح انها جزء لا يتجزأ من خطة اتبعتها الدولة الاموية , وقررت تطبيقها وفرضها عل جميع الامصار لمقاومه الأزمة التي حدثت والتي تجسدت بحركة الهجرة , ففي مصر تشير اوراق البردي الى ان قره بن شريك(90-96هـ /709-714 م) , كان يرسل الى اصحاب الكور يأمرهم فيها بالالتزام بأوامر الدولة وتعليماتها الخاصة بمقاومة الجلاء عن الارض , وعدم ايواء الفلاحين المهاجرين , واعادتهم الى مناطقهم التي جلو عنها , وفي محاولة منه لتدعيم تنفيذ القرارات السابقة اصدر قره بن شريك امرين احدهما بمعاقبه المخالفين وتغريمهم ماليا اما الامر الاخر ينص على مسانده الفلاحين ومساعدتهم عن طريق دفع نفقه شهر كامل تشجيعا على اعاده بناء حياتهم من جديد .
وعندما جاء اسامة بن زيد التنوخي (96-99هـ /714-717م ) تابع جهود قره بن شريك , للحد من الهجرة الى الامصار , فأصدر امرا جديدا منع فيه الفلاحين من الترهب , ذلك ان الرهبنة على ما يبدو وسيله للهروب من دفع الضرائب ( جزيه وخراج ) , وعلى الرغم من كل هذه التدابير والاجراءات التي اتخذتها الدولة الاموية , الا ان هذه الأزمة التي تمثلت بهجرة الفلاحين الى الامصار لم تتوقف بل استمرت معها انكسار الخراج وتراجعه , وفي ايام عمر بن عبد العزيز ظهرت بشكل ملحوظ في البصرة فقد كتب عمر الى عدي بن ارطأة : ” اما بعد فأحص اهل المسكنة بالبصرة , واكتب الي بعدتهم ان شاء الله , فأحصاهم فبلغوا ثلاثين الفا وتسعمائة وخمسة عشر انسانا فكتب الى عدي يأمره ان يعطي كل انسان جريبا في كل شهر من طعام كسكر والسواد اذا قدم عليه بالطعام )) , ولعل القسم الاكبر منهم من المهاجرين عند العرب كما يلاحظ ان هجرة الفلاحين قد اثرت على وارادات بيت المال في الكوفة بين الهجرة وظاهرة انكسار الخراج , وحاول معالجة هذا الامر بإستصفاء اراضي الفلاحين المهاجرين, فكتب الى عمر بن عبد العزيز ” ان قوما من اهل الخراج كانوا اذا أرادوا كسر خراجهم جلو من ارض الى اخرى واني امرت ان تجعل ارض من جلا صافيه وارجو ان يتركوا بذلك عادتهم ان شاء الله )) ولكن الخليفة عارض هذا الراي ولم يوافق عليه .
والظاهر ان عمر بن عبد العزيز لم يقف امام تزايد ظاهره الهجرة كما صنع الحجاج والولاة بل انتهج خطه جديدة تقضي بعدم تقييد حركة الفلاحين والزراع من اهل الذمة, كما اكد حق من يسلم في الهجرة الى الامصار ومسؤولية الذمي المسلم بالنسبة الى ارض الخراج .
ويبدو ان خطه عمر بن عبدالعزيز الجديدة في السماح بالهجرة وعدم الوقوف امامها كانت تنطلق من منطلقات دينيه صرفة فقد كتب اليه عامله يشكو اليه خوفه من قله الخراج بسبب تزايد هجره الفلاحين نتيجة اسلامهم ,قائلا : اما بعد فان الناس قد كثروا في الاسلام وخفت ان يقل الخراج” فأجابه عمر ” والله لوددت ان الناس كلهم اسلموا حتى نكون انا وانت حراثين ناكل من كسب ايدينا.
ودعا الى حسن المعامل مع المسلمين الجدد في الامصار ومساواتهم بباقي المسلمين في الحقوق , ويظهر ان بعض المهاجرين كانوا يدعون دخولهم الاسلام تهربا من الجزية كما بين ذلك عدي بن ارطأة لعمر بن عبد العزيز , مما دفع ذلك بعمر بن عبد العزيز الى الاعفاء من حفظ القران وختمه وعرف الصلوات واوقاتها من الجزية فقط .