مفاتيح المقالة: تباريح رقمية، فتح المجالات النحوية، النص المتشعب.
إنّ التّأسيس الذي برز لبعض الدّراسات الألسنية في إطار مفهوم العامل النّحوي أنّ سيبويه نظر إلى العامل النّحويّ بوصفه مفهوماً تكوينيّاً أو إنشائيّاً ، فالعامل هو الذي يبني الجملة ، فكما أنّ اللبنة الأولَى في البناء هي الأساس التي تكوّن مكاناً فارغاً فوقها لتحلّ فيه اللبنة الثانية ؛ فكذلك الحال في بناء الجملة فإن وجود المبني (أي المبتدأ اسماً كان أو فعلاً) سيكون مجالاً تشغله مقولة المبني عليه ([1])؛ ما يعطي الموقع الذي تشغله المقولة الأولى امتداداً خطياً لاستدعاء المقولات المناسبة لتشغل المجالات التي كونتها تلك المقولة ، وينطلق هذا الامتداد من خلال بنية المقولة ، ومن خلال محتواها الدلالي الذي يمثل الملامح ” أو السمات ” المميزة لتلك المقولة عن غيرها .
يظهر “الفعل وشبه الفعل والمشتق هو محور الجملة ونواتها من الناحية التّركيبيّة وحول الفعل تدور متعلقات أو تسبح في مجاله لدلالته على الحدث وهذه المتعلقات هي من صدر عنه ومن وقع عليه وزمانه ومكانه ودرجته ونوعه والحال التي تمّ فيها وعلّته وعدده، وإذا ظهر في متعلقات الفعل فعلا آخر كان محوراً ثانوياً لمتعلقات تنجذب إليه”([2]).
ومعنى ذلك أنّ الفعل سيكون العامل الفعّال الأكبر الذي تتأسّس عليه الجمل، وتمتد؛ وهو ما فهمه سيبويه عبر نظرتِه الإنشائيّة (العامل النّحوي) ومن ثم كان التعدي الذي مثّل القدرة على طلب المقولات وهي قدرة تلازم الفعل دائماً، سواء ما أطلق عليه النحويون بعد سيبويه الفعل اللازم أم الفعل المتعدي! .
إذ لا وجود للفعل اللازم عند سيبويه مصطلحاً أو مفهوماً ([3]) فالفعل من الجملة هو قلبها ولا حياة لها إلا بوجوده ، وقد تبّنت مثل هذا التّصور بعض النّظريّات النّحويّة تلك التي عرفت بـ ” نظرية التّعلق النّحويّ ” التي أسّسها في فرنسا ” تسنيير” عام 1959م ، بعد أن أصدر كتابه ” عناصر علم التّراكيب البنائيّ ” في العام 1954م ، تعدّ ( نظرية القدرة البنائي للفعل ) جزءاً مهماً من نظريته الآنف الذكر وتقول على قدرة الفعل وفي أحيان أخرى غير الفعل كالاسم والوصف على طلب عناصر محددة في الجملة أو ما يسمونه ” فتح مواقع خالية ” ([4]).
من الملاحظات المهمة هنا أن “تستنيير” أطلق على نظريته في التّعلّق النّحويّ مصطلح ” Valens- Thoeons ” وهو مصطلح نقله من مجال علم الكيمياء إلى ميدان علم اللغة.
إن المتأمل في المنحى الذي يسلك في فتح مواقع خالية أو تكوين المجالات النحوية يتناغم مع الآلية التي يستند عليها العمل الإبداعي “القصيدة التّفاعليّة الرّقميّة ” للشاعر د.مشتاق عباس معن المعنونة بـ “تباريح رقمية لسيرة بعضها أزرق” وذلك عند الضّغط على أيقونات “مفاتيح” محدّدة في واجهة القصيدة الرقمية، فتظهر النّصوص ملحقة ببعضها عبر آليّة رقميّة بالضغط عل كلمات داخل الواجهة القصيدة وبقية صفحاتها أو يكون تنتقل صفحة إلى صفحة أخرى تمثّل جزءاً من مدوّنة القصيدة “أي: المدوّنة الرقمية” التي تمتد مع كلّ نقرة على إحدى الأيقونات الموجودة في كلّ نصّ رقميّ يشغل الشّاشة الإلكترونية، ولهذا رأينا أنْ نضع هذه المقاربة بين فتح المجالات والآلية الرقمية للنّصّ المتشعّب الّرقميّ الذي يعرف بأنّه “وهو النص المترابط Hypertext ويعرف بأنه ” وثيقة رقمية تتشكل من عقد من المعلومات قابلة لان يتصل بعضها ببعض بواسطة أو روابط وتبعا لذلك فتحديداته تتعدد بحسب الاستعمالات التي يوظف فيها. ومن جملة ما يطلق عليه هذا النّص أن يقصد به النص المنجز الذي يمكننا التعامل معه عبر الشبكة العنكبوتية أو على القرص المدمج الذي يمكن أن ننسبه إلى كاتب محدد” ([5]).
ومن هنا يمكننا إطلاق مصطلح (المجال الرقمي) ليكون في ضمن المصطلحات التي ترتبط بهذا التوجّه الأدبي الرّقميّ الجديد، الذي يفتح آفاقا للتوظيف الرّقميّ في المجال اللغويّ أو النحوي، لنقترح ههنا ما يمكن أنْ نطلق عليه النّحو الرّقميّ، المنتمي إلى مسار جديد هو علم اللغة الرّقميّ، لا نقتصر به على إعادة كتابة المدوّنة اللغوية إليكترونية وإنما كتابتها إلكترونيا بآلية النّصّ المتشعّب.
المجالات الرقمية في القصيدة التفاعلية الرقمية:
نصطلح بالمجال الرقمي على كلّ ما يظهر بعد النّقر أو تمرير المؤشر على المفاتيح في الصفحة الإلكترونية الأولى في القصيدة أي الواجهة، ويكون المجال المفتوح بكل تفصيلاته المرئيّة والمسموعة والمقروءة هو ذلك المجال الرّقميّ، إذ تسلك ” المفاتيح أو الأيقونات ” ههنا مسلك الفعل في قدرتها على فتح المواقع لتشغلها الألفاظ، وههنا سيكون المجال هو كلّ المساحات التي ينفتح عليها المتلقي بعد النقر على الأيقونات، ويلحظ في عملية إحداث المجالات جانبين متعلقين بالمفاتيح هما:
الأول: الجانب البنائيّ الذي يتمثّل بالقدرة التقنية للأيقونة ” المفتاح ” لاستدعاء المجال الجديد.
الثاني: الجانب الدلاليّ المتمثّل باللفظة أو الألفاظ التي ترقّن على تلك الأيقونة “المفتاح” ويظهر هذا الجانب في مواضع عدة من القصيدة الرّقميّة التّفاعليّة، وأبرز مظاهره أيقونتا “اضغط فوق ضلوع البوح ” والثانية، إذ يتم بها استدعاء صفحات البوح الممثّلة للمجالات الرّقميّة.
وقد تم اختيار هذه الألفاظ بعناية لتتناسب وما عبّر عنه الشّاعر المبدع في قصيدته، ويعدّ هذا التّناسب مظهراً من مظاهر الوحدة الموضوعيّة للقصيدة الرّقميّة التّفاعليّة، ومنه ما جاء في واجهته تلك القصيدة وهي الجملة الشعرية ” الومضة “: ” أيقنت أن الحنظل موت يتخمر “، إذ تمّ وضعها عمودياً على نحو يعطيها امتداداً أفقياً يظهر من خلال فتحها ” بوضع المؤشر على كل لفظة من ألفاظها ” مجالات بعدد تلك الألفاظ، وكذلك اختياره لألفاظ ” متن وحاشية وهامش وغيرها ” لتكون امتداداً رقمياً لذلك ” البوح “.
فبعد الضغط على أيقونة “هامش” التابعة لمسار “اضغط فوق ضلوع البوح” الثانية يظهر نصّ شعري مع خلفية صفراء اللون وعينان شاخصتان، والنص الهامش هو:
أشجار الزيتون قطعت أوراقها
لأن
الربيع
رحل …
وفي الجانب الآخر لهذا النصّ جاءت عبارة ” إياك أن تقترف ” لتكون أربعة مفاتيح تنسجم دلالالتها مع أربعة مجالات قصيرة تتمثل في نصوص شعريّة قصيرة تظهر بعد وضع المؤشر على اللفظة المحدّدة كما يأتي:
[إياك]: ( إياك……………)
[أن] : ( ان ………..)
[تقترف] : ( تقترف ………)
[ الأمل ] : ( الأمل ……..)
إنّ الوحدة الموضوعيّة التي يتّسم بها المنتج الأدبيّ ههنا يمكن أن تدرك في كل خطوة لإحداث الربط بين المجالات الرّقميّة لهذه القصيدة التّفاعليّة، وبخاصة إدراكها من تلك الألفاظ التي جعلت مفاتيح للتوسع في مسارات البوح الأول والثاني.
وكانت مفاتيح الصّفحة الأولى للقصيدة هي ” وهي الواجهة ” مثالاً لذلك، فمع رأس صارخ مكمم ثم وضعه في وسط الصّفحة برزت علامة في ميسرة الصّورة أيقونتا ” اضغط فوق ضلوع البوح ” الأولى والثانية، وعن يمينها جملة مفاتيح لمجالات “رقمية” شعرية قصيرة “ومضة ” مثّلتها ألفاظ الجملة الشّعريّة ” الوامضة “: ” أيقنت أن الحنظل موت يتخمر” رتّبت كلماتها ترتيباً عمودياً لتمتد مجالاتها أفقياً ويبدئ كلّ من المجالات تلك اللفظة سبق في مفاتيح الجملة الشّعريّة الومضة ” إياك أن تقترف الأمل “، على النحو الآتي:
[ أيقنت ] : ( أيقنت حين قرأت كتاب الدنيا أن الناس توابيت ………..)
[ أن ] : ( ان الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها ، وأرضي تنثّ ملوكاً ، كان آخر من أورق فيها ، ملك الموت )
[ الحنظل ] : ( الحنظل ………..)
[ موت ] : ( موت ………….)
[ يتخمر ] : ( يتخمر ………..)
على ميسرة هذا الصارخ المكمم جملتا ” اضغط فوق ضلوع البوح ” وضعتا الواحدة فوق الأخرى وفي ألفاظهما دعوة للولوج في مجالات هذه التّباريح الرّقميّة التي بيّن الشّاعر معالمها الأولى باستعماله لفظة ” ضلوع “.
وسنجد الشّاعر المبدع قد اختار مثل هذا المنحى في فتح المجالات في عموم قصيدته، إذ تظهر في كلّ مجال أيقونات عدّة كتب عليها بعض الألفاظ مثل أيقونات ” متن ” و ” حاشية” و”هامش ” ويظهر من هامش مجال آخر هو ” مكابرة ” مع إمكانية العودة إلى المجالات السّابقة عبر أيقونات خاصّة.
وعن طريق المجال الذي تفتحه “اضغط فوق ضلوع البوح ” الثاني ينفتح مجال “المتن ” ويليه مجالا ” حاشية ” و” هامش “، ويفتح من مجال حاشية مجالا ” نصيحة ” و” نصيحةأخرى” ، ثم مفتاح ” أوبة نصوح ” يتمّ بها العودة إلى مجال ” حاشية “، وهكذا فإن هذه الأيقونات تسلك في القصيدة التّفاعليّة الرّقميّة مسلك الفعل أو ما نسميه ” العامل الفعّال“([6]) ويكون هذا المجال بسيطاً فيما يشتمل عليه وقد يكون مركبّاً بكثرة تفصيلاته أو قدرته على فتح مجالات ملحقة به .
وقد تنوّعت مظاهر وتفصيلات المجالات الرّقميّة في القصيدة التّفاعليّة الرّقميّة الأولى ولم تقتصر على النّصوص الشّعريّة، بل عمل الشّاعر المبدع على توظيف الموسيقى المتلازمة مع ظهور النّصّ الشّعري وتوظيف مجموعة من الصور المعبّرة التي تنسجم مع النصّ المكتوب والموسيقى المصاحبة وبعض تلك الصور تحمل معها علاماتها المميزة كصورة ” لوحة ” سلفادور دالي، وصورة الأرض ذات الشقوق الناتجة عن بُعد عهدٍ بالماء مع خلفيات بألوان صفراء وزرقاء، والشّريط الكتابيّ المتحرّك الشبيه بالشّريط الإخباريّ الذي يظهر تحت شاشة القنوات الفضائيّة.
والظّنّ الرّاجح أنّ هذا المجال من الإبداع الأدبيّ الرّقميّ سيستمر في توسّعه في إطار أحداث أو توظيف تفاصيل عدّة تتوافق والنّصوص المكتوبة.
([1]) ينظر: المفهوم التكويني للعامل النحوي عند سيبويه ” دراسة وتحليل “: د.غالب المطلبي ود.حسن الأسدي: مجلة المورد / ع 3 / 1999/ ص 10.
([2]) الجملة العربية دراسة لغوية نحوية، د. محمد إبراهيم عمارة، منشأة المعارف للنشر/ مطبعة بور سعيد للطباعة / 1989م: ص42.
([3]) ينظر: مفهوم الجملة عند سيبويه: د حسن عبد الغني الأسدي/ دار الكتب العلمية/ بيروت/ ط 1/ 2007م: ص 156 – 157.
([4]) ينظر مدخل إلى دراسة الجملة العربية: د. أحمد نحلة، دار النهضة العربية / بيروت / 1408هـ -1989م: ص 62-67.
([5]) المدونة الرقمية الشعرية المجال التدوين التعالق:32. د. حسن عبد الغني الأسدي، مطبعة الزوراء –العراق، 2009
([6]) للتفصيل يراجع المفهوم التكويني للعامل النحوي عند سيبويه، دراسة وتحليل.