سد الملك نبوخذ نصر الثاني (604-562 ق.م)
(السور الميدي، سور سميراميس)
ا.د حسن حمزة جواد
كلية التربية للعلوم الإنسانية-جامعة كربلاء
شهدت المنطقة القريبة من مدينة سلوقية دجلة الواقعة جنوب العاصمة بغداد، إقامة تحصينات عسكرية من ملوك بابل، بسبب وقوعها على طرق حيوية تربط الشرق بالغرب، والشمال بالجنوب، ومن نص تركه الملك نبوخذ نصر الثاني (604 – 562 ق.م) نستدل على أن الأخير قد قام بعدد من الأعمال لتحصين مدينة بابل، ويتفاخر فيه بأنه لم يفعل ذلك ملك من قبله، وأشار إلى أنه عمل على انشاء سد يمتد من فوق مدينة أوبس إلى وسط مدينة سبار، وهو واصل من ضفة نهر دجلة إلى ضفة نهر الفرات، وذكر ان مسافة ذلك الامتداد بنحو 5 بيرو (53،460 كم)، وهو سد ضخم بحسب وصفه من التراب، وعمل على تقويته بالملاط والأجر، ليقاوم المياه، التي احاطت المدينة بمسافة 20 بيرو (213،840كم).
ان نص الملك نبوخذ نصر الثاني (604 – 562 ق.م) الذي أشير فيه إلى هذا السد الممتد من مدينة اوبس إلى مدينة سبار بدأ بعبارة لتقوية بابل، فهذا يعني أن هذا العمل جاء بمنزلة سور أو عمل دفاعي لتحصين عاصمته بابل، من أخطار جيرانه والقوى المعاصرة له في ذلك الوقت، أي أننا يمكن أن نطلق عليه سور الملك نبوخذ نصر الثاني، لأنه جاء لغرض دفاعي عسكري.
وذكر أن هذا السد أقيم ضد خطر الميديين ولحماية بابل من هجوم معادي، وهو مُزدوج، ومكون من جانبين يبلغان (60كم) في طولهما ذهاباً وأياباً، بين مدينة اوبس ومدينة سبار، وان أقصر مسافة بين دجلة والفرات تبلغ (30كم)، أي أن الرقم المقدم في نص الملك نبوخذ نصر الثاني عن طول السد البالغ 5 بيرو (53،460كم) = 60 كم تتطابق مع هذا الرقم، لأن الرقم الأخير كما قلنا هو قياس للطول الاجمالي لخطين من الحواجز، والمسافة بين دجلة والفرات في أقرب نقطة هي 30 كم.
ربط هذا السد بين نهري دجلة والفرات، وان الماء الذي بين جانبيه يمكن أن يأخذ من نهر الفرات فقط، أما من مجراه الرئيس أو من قناة سبار، وبذلك يرجح (موسيل) ان سد نبوخذ نصر الثاني هذا والسور الميدي الذي أشار إليه (زينفون) هو نهر الملك، الذي ربط سلوقية دجلة بالفرات، بل هو شريانها الحيوي.
وفي المصادر الكلاسيكية تمت الأشارة إلى ما ذكر في أعلاه بوجود سور عرف بالسور الميدي، أشار إليه (زينفون) في اثناء مروره مع الجنود اليونانيين، بعد هزيمتهم بمعركة كوناكسا سنة 401 ق.م، إذْ ذكر أنهم عبروا سوراً عرف بالسور الميدي، تم بنائه من الأجر ومادة القير، وطوله يمتد نحو 60 ميلاً (96.560كم) وسمكه 20 قدماً (6.96م) وارتفاعه 100 قدم (30.48م)، وهو قريب من بابل، يعلق (موسيل) على ما ذكره (زينفون)، فأشار إلى أن السور الذي أشار إليه الأخير هو سد نبوخذ نصر الثاني، وان الطول الذي ذكره هو مأخوذ من الاشاعات، أي أن ذلك ليس دقيقاً، أما ارتفاعه وسمكه فيرجح أنه يمكن أن يكون قد بني فوق سد نبوخذ نصر الثاني، فبدى له السور عالياً وسميكاً. مع عدم استبعاده لمبالغة (زينفون) في وصف السور الميدي، أما قوله إنه قريب من مدينة بابل، فلا يجب الأخذ فيه حرفياً، لأنه لم يكن يعلم أين تقع مدينة بابل.
وذكر بعض الباحثين أن السور الميدي يقع إلى الشمال من مدينة بابل، أي بنحو 70 كم، ويمكن أن يكون السور المسمى (جبل الصخر)، الممتد بين سلوقية دجلة شرقاً وخان ازاد جنوب بغدادً غرباً، والبالغ ارتفاعه نحو 6 أقدام (1.82 م) عن مستوى سطح الأرض، ووجدت أثار القار على طول جبل الصخر هذا، مما يدل على أنه بني بالأجر والقار.
وإذا عدنا إلى الوراء قليلا نجد المؤرخ هيرودتس(ت 425 ق.م) قد ذكر ان هناك ملكتان من ملكات بلاد الرافدين، حكمتا مدينة بابل، ولهن أعمال متشابهة في تحصينها، الأولى هي سميراميس (Semiramis) والأخرى هي نيتوكريس (Nitocris)، عملت الأولى على أقامة الحواجز الضخمة في السهول لتلافي أخطار الفيضانات، بل ينسب إليها بناء السد العظيم، الذي يمنع فيضان نهر الفرات، أما الثانية فذكر أنها احست بالخطر الميدي، فعملت على التضيق على الميديين وعرقلة اتصالهم بأهل بلاد بابل، باقامتها لعدد من المشاريع، منها بحيرة وسدود وحفريات مختلفة كانت قد أقيمت في مواقع قريبة من المسالك المؤدية إلى بلاد آشور(بلاد بابل) وعلى خط متصل مع بلاد ميديا.
ويعتقد (موسيل) أن الملكة نيتوكريس المشار إليها في أعلاه هي زوجة الملك نبوخذ نصر الثاني، وارجع المؤرخ اليوناني (هيرودتس) اعمال زوجها إليها، وان البحيرة التي أشار إليها الأخير هي واقعة بالقرب من مدينة اوبس ومدينة سبار، بين دجلة والفرات، وهي بذلك تبلغ 30 كم، إذا هي سد نبوخذ نصر الثاني، المشار إليه في أعلاه.
أن أوجه الشبه بين الذي دعا إليه كل من المؤرخين (زينفون وهيرودتس) هو وجود سور، عمل لردع الخطر الميدي، وهو قريب على دجلة وأن مدينة اوبس هي قريبة على سلوقية دجلة.
أما سترابو (ت 24م) فيشير إلى سور سميراميس، عند تتبعه لنهر دجلة من منبعه حتى مصبه، فيصف مروره نحو مدينة اوبس وسور سميراميس، ويتدفق عبر سلوقية دجلة إلى الخليج العربي. وهنا نجد ان (سترابو) قد جاء بعد (هيرودتس) و(زينفون) بمدة من الزمن، ولم يشر إلى السور الميدي، بل أشار إلى سور سميراميس، أحدى الملكات التي أشار إليها (هيرودتس)، ووضعه بالموضع نفسه الذي أشار إليه (زينفون)، أي أن الغرض منه دفع الخطر الميدي أو الخطر القادم من الشرق.
ويعلق (موسيل) على ما أشار إليه (سترابو)، فذكر ان سور سميراميس شيد عند مدينة اوبس، في الموضع الذي تكون فيه المسافة بين دجلة والفرات أقصر ما تكون، بين مدينة سبار ومدينة سلوقية دجلة، وحددها بـنحو (30 كم) بين النهرين.
وفي هذا الشأن يقدم (أحمد سوسة) رأيه أيضاً، إذْ ذكر أن سور الميديين مرتبط بسد أو خزان الملك نبوخذ نصر الثاني، ويصف السور بأنه جزء من تحصينات البابليين ضد الميديين، ويعتقد أن أرجح الآراء في تعيين موقعه هو بأنه يمتد من الجانب الايسر من نهر الفرات حتى الجانب الايمن من نهر دجلة، وأكثر تحديداً من نهر الصقلاوية من (تل صغير) إلى الجهة الشرقية الجنوبية، في محاذاة مجرى نهر الصقلاوية حتى يصل الطرف الجنوبي من بحيرة عقرقوف، ثم ينعطف نحو مدينة(دور-كوريكالزو)( DUR-KURIGALZU)، ثم يستمر في الاتجاه الجنوبي الشرقي حتى ينتهي عند سلوقية دجلة، والأخيرة ليست بعيدة عن تابعتها في العصر الهلنستي مدينة اوبس، أي ان السور ينتهي عند موقع اوبس وسلوقية دجلة .
ولما رغب حفيد الميديين الملك الأخميني كورش الثاني (559- 530 ق.م) بالسيطرة على بلاد بابل سنة 539ق.م، وتأكيد مخاوف البابليين من الخطر الميدي فإن قدومه كان عن طريق مدينة اوبس، التي عدت أحد أطراف السور الميدي، أو سور سميراميس، أو سد نبوخذ نصر الثاني.
إذاً يمكن القول أن مدينة اوبس وسلوقية دجلة واقعتان على طريق الميديين ثم الأخمينيين، أي أن موقع السور والسد هو موقع حيوي استراتيجي، على طرق المواصلات التي تربط بلاد بابل بايران القديمة، وما المسميات المختلفة التي أشارت إليها المصادر الأدبية المختلفة في أعلاه سواء كانت (سد نبوخذ نصر الثاني، السور الميدي، سور سميراميس) كلها تشير إلى أنها كانت تقع في مكان واحد قرب سلوقية دجلة، والغرض واحد هو دفاعي لتحصين بلاد بابل ضد الطامعين.
وقبل الانتهاء من الموضوع نود الإشارة الى بقايا ذلك السور او السد، اذ مر بنا سابقاً، واستناداً إلى النصوص المسمارية أن سد نبوخذ نصر الثاني قوي بالأجر والملاط، وقال (زينفون) (أن السور الميدي قد بني بالأجر والقير)، يبقى السؤال أين ذهب هذا الكم الهائل من الأجر؟
أن الجواب قدمته البعثة الآثارية الإيطالية، المنقبة بقيادة انطونيو انفرينزي (Antonio Invernizzi) في سلوقية دجلة وطيسفون، إذْ أشار إلى أن اللقى التي عُثر عليها لحد الآن في سلوقية دجلة هي لا شيء فيها أقدم من العصر الهلنستي، ما عدا العديد من الأجر، الذي يحمل اختام أو طبعات مسمارية، تحمل أسم الملك نبوخذ نصر الثاني والملك نبونائيد، المستعمل في الكثير من بنايات المدينة، وهذا يتعارض مع ما أشار إليه المؤلف نفسه أن سلوقية دجلة بنيت على موقع اكشاك وأوبس، إلا أنها ممكن أن تكون أسست بالقرب منهما، وأن الطابوق الذي يحمل ختم الملك نبوخذ نصر الثاني يمكن أن يعود إلى أعمال هذا العاهل، حينما قوى تحصينات بلاد بابل الدفاعية، أي هو من بقايا طابوق سد نبوخذ نصر الثاني، أما ما حمل اسم الملك نبونائيد(555 -539 ق.م) فهو ممكن أن يعود إلى أعمال دفاعية، أو بناء سدود أجريت في المنطقة في عهد هذا الملك أيضاً.
ذكر الاثاري (طارق مظلوم) ان عمليات نقل الطابوق من المدن القديمة لبناء مدن جديدة لم تكن بالمسألة البعيدة عن منطقة المدائن، فقدت شهدت الأخيرة في العهد العثماني في العراق (1534- 1920م) سرقة ونقل طابوقها، لبناء العديد من الأبنية والبيوت في بغداد، وذكر ان الخليفة العباسي ابو جعفر المنصور (714-775 م) قد نقل طابوقها أيضاً، وامتنع عن ذلك بسبب زيادة كلفة النقل، ففضل انتاج الطابوق في بغداد نفسها، أما قضاء المدائن ففيه الكثير من طابوق هذا الموقع، الذي يحتوي على العديد من المدن.
المصادر:
مدينة سلوقية دجلة دراسة تاريخية حضارية، أطروحة دكتوراه غير منشورة، جامعة بغداد-كلية الآداب-قسم التاريخ، 2019م.