الدروس المستخلصة
من انتفاضة النجف عام ١٩٧٧
اتضح لنا من خلال البحث ان عداء حزب البعث في العراق للتحرك الإسلامي بجميع مكوناته سواء كانت شعبية او حوزوية او حزبية يعود الى ما قبل العام 1968 ، وقد تطور هذا العداء وازداد ضراوة بعد استيلاء البعثيين على السلطة في تموز عام 1968 ، ولما كانت الحوزة العلمية في النجف الاشرف والشعائر الحسينية تعدان من اهم الواجهات الإسلامية ، لذا فأنهما نالتا من ضراوة ذلك العداء الشيء الكثير .
حاول البعثيون ، بعد أشهر قليلة من استيلائهم على السلطة عام 1968 عزل الحوزة العلمية عن قواعدها الشعبية وتحويلها من كيان ديني يـُعنى بهموم الأمة وتطلعاتها الى حوزة طقوس وشعائر او الى كيان يسبح بحمد الحكومة ، للحد من تأثيرها في المجتمع ، وقد جرت هذه المحاولات على وفق خطة تم تنفيذها على مراحل ، اذ ان البعثيين كانوا يرون في الحوزة العلمية منافساً قوياً له نفوذ وتأثير كبير في المجتمع أكثر مما للحكومة التي يقفون هم على رأسها . بيد انهم فشلوا في مسعاهم ، وبقي العديد من أعلام الحوزة العلمية متواصلين مع قواعدهم الشعبية كلٍ بحسب ظرفه .
سعى حزب البعث كذلك الى القضاء التدريجي على الشعائر الحسينية التي يرى في شعاراتها وتجمعاتها الجماهيرية الحاشدة خطراً كبيراً يهدد وجوده ، لذا عمل على الحد من ممارستها وتقليصها تمهيداً لإلغائها ، مدعياً العمل على تشذيبها ، وما كان قرار منع خروج المسيرات الراجلة الى مدينة كربلاء المقدسة في عام 1977 إلا خطوة في هذا المجال ، وهو ما أدى الى إشعال فتيل الانتفاضة .
تعد الانتفاضة تمثيلا صادقاً للتحرك الجماهيري الشعبي المحض ، الذي لا تقف وراءه أي جهة سياسية على خلاف ما أراد النظام إظهاره عن طريق أجهزة إعلامه التي حاولت ربط الانتفاضة بجهات خارجية وهو ما قد ثبت زيفه .
حظيــت الانتفاضــة بدعــم الحــوزة العلميــة فــي النجــف الاشــرف ممثلــة بالمــرجع المعروف السيد محمد باقر الصدر ، الذي ارسل الى الجماهير وفداً برئاسة السيد محمد باقر الحكيم للتعبير عن تأييده ووقوفه الى جانبهم ، فضلا عن ما حظيت به الانتفاضة من دعم شعبي كبير تجسد بإمداد جماهيرها بما تحتاج إليه من ماء وطعام ، على الرغم من الإجراءات المشددة التي اتخذتها الحكومة ضد من يقوم بهذه الأعمال .
تبـّين من خلال هذا البحث ان الانتفاضة قد كشفت عن عدم قناعة طائفة كبيرة من البعثيين بمبادئ حزبهم ، بدليل مشاركة أعداد كبيرة منهم في الانتفاضة ، زيادة على ظهور بوادر ازمة ثقة ما بين النظام والمؤسسة العسكرية ، فضلا عن بروز عدم الانسجام داخل قيادة حزب البعث ، الامر الذي أدى الى إقالة اثنين من أعضاء القيادة القطرية للحزب من مناصبهما كافة ، زيادة على طردهما من الحزب على خلفية تداعيات أحداث الانتفاضة .
أسهمت الانتفاضة في كسر حاجز الخوف من السلطة من خلال التحدي الجماهيري العلني لقرار منع إحياء الذكرى السنوية لأربعينية الإمام الحسين (ع) على العادة الدارجة ، الأمر الذي أسهم في المحافظة على إقامة الشعائر الحسينية .
وهكذا يبدو للمتتبع ان انتفاضة النجف عام 1977 لم تكن حادثاً عرضياً جاء نتيجة رد فعل آني ضد قرار منع إحياء الشعائر الحسينية ، بل انها جاءت نتيجة عوامل وتراكمات كثيرة محورها المواقف السلبية للسلطة من التحرك الإسلامي عموماًً والشعائر الحسينية على وجه الخصوص ، وما كان الموقف من الانتفاضة إلا حلقة من سلسلة طويلة لمخطط وضع لخنق التحرك الإسلامي في العراق منذ الأيام الاولى لاستلام البعثيين مقاليد الحكم فيه عام 1968 ، وقد كانت الشعائر الحسينية ولا زالت مظهراً مهماً من مظاهر التحرك الإسلامي الشعبي المعبر عن رفض الظلم ، وقد سعى أبناء النجف الاشرف للمحافظة على إقامتها ، والانتفاضة خير دليل على ذلك ،لذا لا نجانب الحقيقة اذا ما قلنا ان الانتفاضة صفحة مشرقة في سفر نضال أبناء النجف الأشرف ضد حكام الجور .
أ . د . رحيم عبد الحسين عباس
جامعة كربلاء كلية التربية للعلوم الانسانية
قسم التاريخ