النسق الثقافي في الأسماء” الإنفتاح والدلالة”
ا.د هادي شندوخ حميد/قسم اللغة العربية
تشغل ظاهرة “التسمية” حيزًا فاعلًا في عملية التواصل الإنساني، فالمحددات الإسمية للشخوص تُعدُّ بمثابة تأكيداتٍ ذاتيةٍ تعزُّز من القيمة المعنوية للحضور الإنساني، فضلا عن أنَّها أداة كشفٍ للمهيمنات المتحكمة في إنتاج تلك المنظومة الإبلاغية في فعل التحاور.
ويُمثِّلُ الإهتمام بالموروث الثقافي للشعوب علامةً دالةً على الارتباط الوجودي بالماضي، ومن ثم الانطلاق من معالمه في التطور والإفادة والتحليل ، ولعلَّ ظاهرة الأسماء واحدة من الدلائل المهمة في قراءة طبيعة الواقع الاجتماعي وانفتاحه أو انغلاقه على الحقول الأخرى التي تتداخل معه ، فالمسافات أو الحدود في التواصل بين مجالات المعرفة في إطلاق تلك الأسماء يمثل حالة من الوعي في تقويم الفكر السائد ومدى استيعابه للمؤثرات المحيطة به.
فالمساءلة الواقعة لنظام الثقافة وإنتاج تلك الأسماء يقود إلى إحراز فهم يشيد لتلك العلاقات الاصطلاحية فاعليتها في التأسيس لذلك التنوع من الاطلاق في التسميات . في هذا السياق يأتي هذا الطرح المعرفي للكشف عن العلاقة اللغوية بانساق الثقافة الاجتماعية لتوليد عدد من الاحتمالات او الافتراضات في رصد تلك الظاهرة وعلاقاتها المختلفة . لأنَّ الأسماء بوصفها علامة لغوية تمثل : “مركزا لاستقطاب فكرة ثقافية واداة توسل داخل الخطابات ” ولعلَّ ربط الأسماء بالمسميات مثل وعيا مبكرا في الموروث الفكري العربي ، من زاويتين الأولى تدلُّ على العلاقة الوشيجة التي تعكس ظلال الاسم على المسمى ومايحدث بينهما من علاقة تطابق أو تنافر ، يقول ابن مسكويه : ” فلو أنَّك نقلت اسم الفحم إلى الكافور في مابينك وبين آخر لكان متى ذكر الفحم تصور السواد ولم يمنعه ماانتقل في مابينه وبينك إلى مسمى آخر أيض طيب الرائحة ” ، ومن المأثور أنَّ العرب كانوا يتفاءلون بالاسم الحسن ،ويتطيرون من ضده وكانوا يقولون إنَّ من حق الولد على والده أنْ يختار له أُمّا كريمة ويسميه اسما حسنا ويعلمه القراءة والكتابة وإنمَّا تطيَّرت العرب من الغراب للغربة إذ كان اسمًا مشتقا منها ” (3) ، والثانية إطلاق الاسم على المسمى يمثِّل ضربا من القصد والإرادة فيكونان واحدًا ، يقول القاضي عبد الجبار : ” ” اعلم أنَّ الاسم إنمَّا يصير إسما للمسمى بالقصد ولولا ذلك لم يكن بأنْ يكون اسما له بضرب من القصد ” هذه القصدية تشير إلى المطابقة في حمولة كل من الاسم والمسمى .
وبذلك تكون هذه الأسماء شديدة العلاقة بمنتجيها لأنها تتصل بواقعهم وافكارهم ومعتقداتهم فتغدو الصورة حيوية مواكبة لحسهم اليومي مهما كانت مرجعية تلك الأسماء ودوافعها، فهي بمثابة التاريخ الشاهد على ولادة ذلك التنوع الاسمائي. والتكثيف في نوع من الأسماء يأتي نتيجة فرض نمط جديد من المرجعيات التي تدفع بها الظروف والاحوال المعاشة فقد تكون دينية او اجتماعية او سياسية. لها القدرة على الإيحاء في سياق التواصل والتعايش.
هذا النسق من ثقافة الأسماء له موجهاته في الاستثمار فتكون المقبولية أو التفاؤل بالاسم دليلا على البهجة والتكريم ويأتي التهميش في بعض الأسماء بما لايدل على معنى أو يشير إلى شيء مستهجن مناسبة للقيمة الاجتماعية للمسمى فيزدرى ويكون الشؤم نصيبا له ، ومن الطرائف في ذلك عن الأصمعيّ قال: لما قَدِم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة على رجل من الأنصار، فصاح الرجلً بغُلامَيه: يا سالم ويا يسار؟ فقال رسول صلى الله عليه وسلم: سَلِمت لنا الدّار في يُسْر. ويذكر أنَّ عُمر بن الخطاب رضي الله عنه سأل رجلاً أراد أن يَسْتعين به على عمل عن اسمه واسم أبيه. فقال: ظالم بن سُراقة، فقال: تَظْلم أنت ويَسْرِق أبوك؟ ولم يَسْتَعِن به في شيء.
وتنفتح الدوال الثقافية للأسماء لتشكل هويات تربط الحاضر بالماضي ، فالاسم ذاكرة ومكان وثقافة ، ينتجها الانسان عبر وعيه وحدوده لتكون تمثلات فاعلة في ممارسات التواصل حيث الزمان والمحيط والشخوص في نسق من علاقات إقامة متبادلة تمنحنا الصورة والمعنى والتاريخ. يقول غائب طعمة فرمان : “كلما ارتقى الكائن وتعقد صار له ماض وذاكرة ، اتسعت دائرة وعيه للأشياء حتى أنَّ ذهن الانسان مخزن عجيب من عاديات الماضي منجم لاينضب من الذكريات” ” لذلك فاغلب اسمائنا الجنوبية نستعيد من خلالها ذاكرة التاريخ والمكان والشخوص فتصبح حيزا لمتوالية حب وحزن يلف الماضي تفاصيل حكاياتها. في جغرافية حفرت اخاديدها حكايات عجيبة عن قصة ولادة بعض من هذه المسميات .
بهذه البنية من التصور الثقافي للأسماء ودلالاتها تستبطن العلاقة بين اللغة والمجتمع في إطار من المحددات الكاشفة عن علاقة الانسان بمعتقداته الدينية وبيئته الاجتماعية والتحولات السياسية كذلك ، وصولا الى المهيمنات القارة في توجيه الوعي نحو فئة من الأسماء دون غيرها . فالرؤى العفوية أو الطبقية الإجرائية هي الهاجس في رصد تلك الأسماء وعلاقتها بالبنية التفكيرية المحلية .فالتسمية : ” تشكل نظاما سيميائيا لايمكن دراسته بمعزل عن بعديه الاجتماعي والنفسي ولاجرم ان الأسماء تحمل معطيات نفسية في اثناء التعامل الاجتماعي “