نظرية التأدب عند الامام علي”ع” المجال العقدي انموذجا
ا.د هادي شندوخ حميد/ قسم اللغة العربية
بلا شك ان المرتكز العقدي في حياة الانسان ، لا يمثل حالة طارئة دون انعكاسات على ايمانه وافكاره وتوجهاته ، فالمنظومة العقدية هي المنطلق في تشكيل الرؤية الكونية القائمة على ضبط حدود التعامل مع الوجود باسره توحيدا ونبوة وامامة ويقينا بالرسالات ومنهجا تتدفق منه سلوكيات الانسان ومواقفه .
فأمير المؤمنين “ع” وقبله رسالات الانبياء ، نقطة انطلاق اولوياتهم هو تشكيل منظومة اعتقادية يقينية قادرة على خلق ممارسات فكرية وحياتية تؤمن سلوك الانسان بشكل سوي ومعتدل وتحفظ محيطه من مصادر التشويه والانحرافات الطارئة في ظل سياسات وموجهات ومدارس غايتها التأثير على فطرة الانسان وابعاده عن الهدف الاسمى المتعلق بتحقيق العبودية لله جل وعلا.
ولعل صياغة نظرية التأدب في المجال العقدي عند الامام “ع” من اهم الاستراتيجيات البارزة في فكره “ع” ، لان الاعتقاد بتأسيس خطاب هادف في التربية الاخلاقية منطلقه تشييد العلاقة مع الخالق سبحانه إيمانا وعبادة وتوحيدا ، وهذا ما أطره الامام “ع” في نصوصه ومواقفه بنحو فعلي تجلت سمات التأدب فيه بارزة للعيان ، وبدعامة تنفتح على البناءات الخاصة في العناية بالذات الالهية وصفاتها والاسلام والقرآن والنبي “ص” والامامة والخلافة والاخرة والجنة والنار والكفر والشرك وغيرها.
اما اصول العقيدة فيرى مكارم شيرازي انها تكمن في الايمان بالله تعالى خالق الخلق وباسط الرزق الحي القيوم وبجميع صفاته تعالى من القدرة والعلم والارادة وغيرها من الصفات التي تليق به تعالى والايمان بملائكته.. والايمان بالأنبياء والرسل والاوصياء والخلفاء من تقدم منهم ومن تأخر.. والايمان بالمعاد وان الله يبعث الموتى بعد ان صاروا في التراب رميما لأنه يثيب المحسن ويعاقب المسيء ( العقائد الاسلامية : شيرازي : 93، 94) .
وهي التصورات الرئيسة في رؤية الامام “ع” ادراكا وتمثلا ، سعى من خلالها الامام “ع” الى صياغة المنظور الحقيقي للإنسان في علاقته بتلك الابعاد المقومة لحياته بعيدا عن العشوائية والاعتباطية في مطلق التصرفات الفردية .
فعلاقات الخلق بالخالق كما يقول صبحي الصالح : ” هي أخلص معاني العبودية فلا مشابهة ولا مشاركة ولا والد ولا ولد ولا صهر و لانسب اذ يقر الخلق كلهم بالعبودية لله الخالق الرازق الذي بيده الملك وهو على كل شي قدير ” (النظم الاسلامية : صبحي الصالح : 183) .
لذلك فان محور البحوث التوحيدية العقلية عند الامام “ع” مبتنى على اساس اطلاق الخالق عن جميع القيود والحدود واحاطته بجميع الوجود وقيمومته على جميع الكائنات .. فالامام “ع” تحدث عن كون الخالق اولا في آخريته وآخرا في اوليته وظاهرا في باطنيته وباطنا في ظاهريته وانه اعلى من الزمان واسمى من العدد وان قدمه ليس قدما زمانيا ووحدته ليست وحدة عددية وفي علة الخالق وقدرته وغناه الذاتي وابداعه وانه لايشغله شان عن شان وان كلامه عين فعله وفي مدى قدرة العقول على دركه ومعرفته وان معرفته من نوع تجليه على العقول لا من نوع احاطة الافكار بمفهوم ومعنى معين وبكلمة في سلب الجسمية والحركة والسكون والتغير والمكان والزمان والمثل والضد والشريك والشبيه واستخدام الالة والمحدودية والمعدودية عنه تعالى ( في رحاب نهج البلاغة : 36)
فحين يكون الموضوع واحدا متمثلا بالعبودية فكل القضايا الاخرى تكون من المسلمات بتلك الحقيقة حيث تنتفي كل العنوانات والامتيازات والطبقات امام سلطانه وقدرته جل وعلا ، : ” فصورة التأدب مع الله سبحانه نابعة من طبيعة العقيدة الاسلامية ومعطيات التعبد الديني التي تجعل لله تعالى قيما تصفِّر قيمة الذات في قبالها “( ادعية اهل البيت عليهم السلام دراسة في ضوء تحليل الخطاب: 99) .
اما مظاهر التأدب مع الله سبحانه وتعالى فتظهر عند الامام “ع” في بعض مقدمات رسائله الى الولاة او الاعداء عند الابتداء بالبسملة او بالعبودية امام المولى جل وعلا بالقول من عبدالله علي أمير المؤمنين ، مثال ذلك : “ومن كتاب له (عليه السلام) إلى أبى موسى الأشعري وهو عامله على الكوفة، وقد بلغه عنه تثبيطه الناس عن الخروج إليه لما ندبهم لحرب أصحاب الجمل: من عبد الله على أمير المؤمنين إلى عبد الله بن قيس: أما بعد، فقد بلغني عنك قول هو لك وعليك، فإذا قدم عليك رسولي فارفع ذيلك، واشدد مئزرك وأخرج من جحرك، واندب من معك، فإن حققت فانفذ، وإن تفشلت فابعد، وأيم الله لتؤتين من حيث أنت، ولا تترك حتى يخلط زبدك بخاثرك، وذائبك بجامدك، وحتى تعجل عن قعدتك، وتحذر من أمامك، كحذرك من خلفك، وما هي بالهوينى التي ترجو، ولكنها الداهية الكبرى، يركب جملها، ويذل صعبها، ويسهل جبلها. فاعقل عقلك، واملك أمرك، وخذ نصيبك وحظك، فإن كرهت فتنح إلى غير رحب، ولا في نجاة فبالحري لتكفين وأنت نائم حتى لا يقال: أين فلان! والله إنه لحق مع محق وما يبالي ما صنع الملحدون! والسلام.” (نهج البلاغة : )
وقوله “ع” : “من عبد الله على أمير المؤمنين، إلى القوم الذين غضبوا لله حين عصى في أرضه، وذهب بحقه، فضرب الجور سرادقه على البر والفاجر، والمقيم والظاعن، فلا معروف يستراح إليه، ولا منكر يتناهى عنه.أما بعد، فقد بعثت إليكم عبدا من عباد الله، لا ينام أيام الخوف، ولا ينكل عن الأعداء ساعات الروع، أشد على الفجار من حريق النار، وهو مالك بن الحارث أخو مذحج، فاسمعوا له، وأطيعوا أمره فيما طابق الحق فإنه سيف من سيوف الله لا كليل الظبة، ولا نابي الضريبة فإن أمركم أن تنفروا فانفروا، وإن أمركم أن تقيموا فأقيموا، فإنه لا يقدم ولا يحجم، ولا يؤخر ولا يقدم الا عن أمري، وقد آثرتكم به على نفسي لنصيحته لكم، وشدة شكيمته على عدوكم” (نهج البلاغة : )
وقوله “ع” : ” أنا عبد الله وأخو رسوله، لا يقولُها بعدي إلَّا مفترٍ على الله أو كاذب” (نظم درر السمطين: 96).
وبتلك العبودية الواردة على لسان الامام “ع” بقوله (عبدالله) ، يظهر يقينا قمة التأدب في الخطاب ، فالعبودية لا تخرج عن الطاعة والاذلال امام المولى سبحانه بإشارة تحمل النفي عن عبودية غيره والكمال والتشريف في الاضافة الى الله سبحانه تثبيتا للاعتقاد الصحيح وتهذيبا للنفس في اشعارها الاستصغار والذل امام ملك الملوك جل وعلا. وفي الحقيقة ان التحليل المعمق لتلك الصيغة التأدبية الخطابية يفصح عن تعبير سلس دقيق لحقيقة حضور الانسان امام ربه عز وجل بانه في منزلة العبودية غير المشترطة لنوع او اختيار في الممارسة العبادية الانسانية .وإن كانت السيادة متاحة في العلو على الناس سلطة وقيادة ، فان المشروعية في اضفاء الرفعة متأتية من الاقرار بالضعف والافتقار الى التمسك بالمطلق المتعالي عن الخلق وشؤونهم . يقول احد الباحثين : “وأَصل العبوديّة الخضوع والذلّ، أيِ المَلِكِ الأعْظَمِ الَّذِي لَهُ صِفاتُ الكَمالِ لا أتَعَبَّدُ لِغَيْرِهِ، إشارَةً إلى الِاعْتِقادِ الصَّحِيحِ فِيهِ، وأنَّهُ لا يَسْتَعْبِدُهُ شَيْطانٌ ولا هَوىً ” (نظم الدرر في تفسير الآيات والسور : )
بسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ لَا حَوْلَ وَ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ اللَّهُمَّ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ يَا اللَّهُ يَا رَحْمَانُ يَا رَحِيمُ يَا أَحَدُ يَا صَمَدُ يَا إِلَهَ مُحَمَّدٍ إِلَيْكَ نُقِلَتِ الْأَقْدَامُ وَ أَفْضَتِ الْقُلُوبُ وَ شَخَصَتِ الْأَبْصَارُ وَ مُدَّتِ الْأَعْنَاقُ وَ طُلِبَتِ الْحَوَائِجُ وَ رُفِعَتِ الْأَيْدِي اللَّهُمَّ افْتَحْ بَيْنَنا وَ بَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَ أَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ (مهج الدعوات و منهج العبادات: )
ويرمي الامام “ع” في سياقات اخرى الى سلوك تأدبي في خطاب المولى سبحانه ، متمثل بالبدء بالبسملة عند الاعتراف والتعظيم بالخالق جل شانه ، مثال ذلك قوله “ع” : “بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ اللَّهُمَّ أَنْتَ الْمَلِكُ الْحَقُّ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ وَ أَنَا عَبْدُكَ ظَلَمْتُ نَفْسِي وَ اعْتَرَفْتُ بِذَنْبِي وَ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ فَاغْفِرْ لِي يَا غَفُورُ يَا شَكُورُ اللَّهُمَّ إِنِّي أَحْمَدُكَ وَ أَنْتَ لِلْحَمْدِ أَهْلٌ عَلَى مَا خَصَصْتَنِي بِهِ مِنْ مَوَاهِبِ الرَّغَائِبِ وَ مَاوَصَلَ إِلَيَّ مِنْ فَضْلِكَ السَّابِغِ وَ مَا أَوْلَيْتَنِي بِهِ مِنْ إِحْسَانِكَ إِلَيَّ وَ بَوَّأْتَنِي بِهِ مِنْ مَظِنَّةِ الْعَدْلِ وَ أَنَلْتَنِي مِنْ مَنِّكَ الْوَاصِلِ إِلَيَّ وَ مِنَ الدِّفَاعِ عَنِّي وَ التَّوْفِيقِ لِي وَ الْإِجَابَةِ لِدُعَائِي حَتَّى [حين] أُنَاجِيَكَ دَاعِياً وَ أَدْعُوَكَ مُضَاماً وَ أَسْأَلَكَ فَأَجِدَكَ فِي الْمَوَاطِنِ كُلِّهَا لِي جَابِراً وَ فِي الْأُمُورِ نَاظِراً وَ لِذُنُوبِي غَافِراً وَ لِعَوْرَاتِي سَاتِراً ” (مهج الدعوات و منهج العبادات: )” ، فالسعي في تشييد تلك الصورة التادبية هو تحريك المخاطب لادراك وفهم علة الابتداء بالبسملة ومدى تاثيرها على الواقع النفسي معرفة ووعيا بالمعطيات الحافة بالمحتوى العميق لدلالة الافتتاح بالبسملة ، تهذيبا وتادبا وتوكلا في كل الاعمال على القدرة والرحمة المتمثلة في اسرار بسم الله ورحمانيته ورحمته ، يقول صاحب الميزان : “الناس ربما يعملون عملاً أو يبتدؤون في عمل ويقرنونه باسم عزيز من أعزتهم أو كبير من كبرائهم، ليكون عملهم ذاك مباركاً بذلك متشرفاً، أو ليكون ذكرى يذكرهم به، ومثل ذلك موجود أيضاً في باب التسمية، فربما يسمون المولود الجديد من الإِنسان، أو شيئاً مما صنعوه أو عملوه كدار بنوها أو مؤسسة أسسوها باسم من يحبونه أو يعظمونه، ليبقى الاسم ببقاء المسمى الجديد، ويبقى المسمى الأول نوع بقاء ببقاء الاسم كمن يسمي ولده باسم والده ليحيي بذلك ذكره فلا يزول ولا ينسى.وقد جرى كلامه تعالى هذا المجرى، فابتدأ الكلام باسمه عز إسمه، ليكون ما، يتضمنه من المعنى معلماً باسمه مرتبطاً به، وليكون أدباً يؤدب به العباد في الأعمال والأفعال والأقوال، فيبتدؤوا باسمه ويعملوا به، فيكون ما يعملونه معلماً باسمه منعوتاً بنعته تعالى مقصوداً لأجله سبحانه فلا يكون العمل هالكاً باطلاً مبتراً، لأنه باسم الله الذي لا سبيل للهلاك والبطلان إليه.” (الميزان في تفسير القرآن : ج ١ – الصفحة ١٥)
ونتيجة المعرفة المطلقة بالله جل شأنه ، يلجأ الامام “ع” الى ربط الانسان الضعيف في قدرته امام ربه القادر ، بالاستعانة والتوكل والتفويض ، وبلغة قوامها التسليم وباستهلال يفصح عن الايمان به سبحانه، نجاة للانسان عند احتدام الشدائد والصعوبات ، يقول “ع” مخاطبا كميل بن زياد : “يا كميل قل عند كل شدة لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم تكفها. و قل عند كل نعمة الحمد لله تزد منها، وإذا أبطأت الأرزاق عليك فاستغفر الله يوسع عليك فيها. (بحار الأنوار – العلامة المجلسي – ج ٧٤ – الصفحة ٢٧٠) .
اما اسلوب الحمد عند الامام “ع” فقد انطوى على كثرة ملحوظة من المعاني القرآنية دون الاخلال بتأديتها كاملة (الاثر القراني في نهج البلاغة : 294) ، وظفه “ع” بصياغة مثلت نمطا سلوكيا تترشح منه عملية تطبيع في الاسلوب عند مخاطبة المولى سبحانه ، وبسياق كاشف عن اللغة العالية في التأدب مع المنعم والمعطي على نعمه وفضله ، يقول : “عليه السلام :اللّهُمَّ لَكَ الحَمدُ عَلى ما تَأخُذُ وتُعطي ، وعَلى ما تُعافي وتَبتَلي ؛ حَمدا يَكونُ أرضَى الحَمدِ لَكَ ، وأحَبَّ الحَمدِ إلَيكَ ، وأفضَلَ الحَمدِ عِندَكَ ؛ حَمدا يَملَأُ ما خَلَقتَ ، ويَبلُغُ ما أرَدتَ ؛ حَمدا لا يُحجَبُ عَنكَ ، ولا يُقصَرُ دونَكَ ؛ حَمدا لا يَنقَطِعُ عَدَدُهُ ، ولا يَفنى مَدَدُهُ .(نهج البلاغة : )
ومثله يقول “ع” : “الْـحَمْدُ للهِ الَّذِي لا يَفِرُهُ الْـمَنْعُ ، وَلا يُكْدِيهِ الإِعْطَاءُ وَالْـجُودُ؛ إِذْ كُلُّ مُعْطٍ مُنْتَقِصٌ سِوَاهُ، وَكُلُّ مَانِعٍ مَذْمُومٌ مَا خَلَاهُ، وَهُوَ الْـمَنَّانُ بِفَوَائِدِ النِّعَمِ، وَعَوائِدِ الْـمَزِيدِ وَالْقِسَمِ، عِيَالُهُ الْـخَلاَئِقُ، ضَمِنَ أَرْزَاقَهُمْ، وَقَدَّرَ أَقْوَاتَهُمْ، وَنَهَجَ سَبِيلَ الرَّاغِبِينَ إِلَيْهِ، وَالطَّالِبِينَ مَا لَدَيْهِ، وَلَيْسَ بِمَا سُئِلَ بِأَجْوَدَ مِنْهُ بِمَا لَمْ يُسْأَلْ.(نهج البلاغة : ) ، وعنه “ع” أحمَدُهُ استِتماما لِنِعمَتِهِ ، وَاستِسلاما لِعِزَّتِهِ ، وَاستِعصاما مِن مَعصِيَتِهِ . وأستَعينُهُ فاقَةً إلى كِفايَتِهِ ؛ إنَّهُ لا يَضِلُّ مَن هَداهُ (بحار الانوار : ) ، ويقول “ع” : “(الحمد لله الذي عرفني نفسه ولم يتركني عميان القلب) (بحار الانوار : ج ٨٣ – الصفحة ٢٨٢) ، لاثبات ثقافة جماعية تخلق هوية الاعتراف والخضوع والشكر عند الانسان في ذاته وفي محيطه امام ربه وخالقه ، بارتكاز حقيقي وليس متخيلا يتخذ من اللغة وسيلة تعبيرية لابداء ذلك الاستحقاق الممزوج بالتهذيب والامتنان .
ويحرص الامام “ع” في اسلوبه التربوي المفعم بالتأدب الى تقنين احكام اخلاقية ارشادية في التعرف على الله سبحانه بالعجز عن معرفته ليكون ذلك طريقا الى التعبد والايمان والاذعان بالمنزلة الالهية التي لاتدرك ولاتتصور ، يقول “ع” : “فلسنا نعلم كنه عظمتك، إلا أنا نعلم أنك حي قيوم، لا تأخذك سنة ولا نوم، لم ينته إليك نظر، ولم يدركك بصر (ميزان الحكمة – محمد الريشهري – ج ٣ – الصفحة ١٨٩٣) ، فالتأمل في بنية الخطاب المذكور المتضمن نفي المعرفة بالعظمة الالهية ادراكا وتصورا والاثبات في الاعتقاد بانه سبحانه حي قيوم ، بعيد عن ادراك الحواس والمتخيلات ، يثبت نزعة اخلاقية جديدة في طرائق السلوك عند الانسان و علاقته بالله سبحانه وتعالى ، وبقابلية ذاتية محركة للفطرة الانسانية في استشعار القدرة الربانية واستصغار النفس وكبح جماحها وغرورها في وجودها وشؤونها كافة .
وتزداد الحاجة الى هذا النمط من التأدب في العلاقة مع الله سبحانه وتعالى ، في تصورات امير المؤمنين “ع” لخلق حالة من الاطمئنان النفسي عند التمسك واليقين بالوجود المطلق المقتدر ، يقول “ع” : “فاتقوا الله الذي أنتم بعينه ، ونواصيكم بيده، وتقلبكم في قبضته. وإن أسررتم علمه، وإن أعلنتم كتبه. قد وكل بذلك حفظة كراما لا يسقطون حقا، ولا يثبتون باطلا. واعلموا أنه من يتق الله يجعل له مخرجا من الفتن ونورا من الظلم، ويخلده فيما اشتهت نفسه، وينزله منزل الكرامة عنده. في دار اصطنعها لنفسه. ظلها عرشه. ونورها بهجته. وزوارها ملائكته. ورفقاؤها رسله. (نهج البلاغة : ) ففي مثل هذا السياق لا يكون الطلب المباشر بصيغة الامر ، دافعا للنفور عن التقبل والطواعية للمحتوى التعبدي ، بل هو دافع للتدليل على اهمية مراقبة الله للفعل الانساني امام الغرائز النفسية والدوافع المحركة لانحراف الانسان عن جادة الاستقامة ، وبلا شك ان هذا الاساس النفسي مثير لفعل الاعمال والطاعات في دائرة الحياة مع استلزام البعد عن آفات الشرور والانحراف.
وكما ذكرنا ان منطلقات التأدب مع الله سبحانه عند الامام “ع” نابعة من منظومة اعتقادية تفرضها طبيعة الخطاب القرآني والتعاليم النبوية في سلم الحياة الاجتماعية للأفراد ، فقد تلتقي او تتعارض مع المقولات اللسانية لان كلا من المسارين له منطلقاته وحدوده في التصور والرؤية .
فوفقا للقيم الاسلامية لا تمثل صيغ الطلب المباشرة اراقة لوجه المخاطب او خرقا للتعاون بين المتكلم والمخاطب ، لان التأسيس الاخلاقي في التوجيه الديني قد يتطلب الامر او النهي للامتثال بفعل ما او الكف عنه ، فضلا عن سلطة الامام “ع” بوصفه قيما على الامة ومرشدا لها ،فان استعمالاته تتطلب خرقا لقواعد التخاطب اللسانية الوضعية ،دون تشويش او احداث لبس في التخاطب لحكم المنزلة ومعرفة المصلحة او لتربية الامة على التأدب مع الله في استصغار النفس امام عظمة الخالق.