البناء الصرفي من آليات التصوير الفني في القرآن الكريم
إعداد
الأستاذة المساعدة الدكتورة : أفراح عبد علي كريم
إنّ الفارق بين التعبير القرآني وغيره من التعابير البلاغية أنّه يخرج من التعبير المجرد الى التعبير المصوِّر ، فهو يجعل من المعاني والأفكار المجردة صوراً حيّةً مُدرَكة، فينقلها من عالم الإخبار الى عالم الإدراك الحسّي ، لتجد في الصورة القرآنية حياةً تؤثر تأثيراً وجدانياً في نفس مَنْ يقرأ القرآن بتدبرٍ وتأملٍ وبروح العقل التي أعملها الله فيه ؛ فتراه يستشعر تلك الصُور بما تحمله من معانٍ عظيمة.
وللآخرة في القرآن الكريم نصيبُها الأوفر في عرض المشاهد الزاخرة بالصُور الفنية الحيّة المُتحركة بما في ذلك مشاهد يوم القيامة وأهوالها، والحساب وصور النعيم والعذاب اللذان تتعدد مناظرهما فتُلقي بظلالها المُؤثّرة على النفس البشرية ترغيباً وترهيباً.
ولم تخلُ سورة الكهف المباركة من ذكرٍ لجزاء الظالمين في الآخرة المتمثل بالنار وما يقابله من جزاء الذين آمنوا وعملوا الصالحات في جنّات عدن.
قال تعالى:( وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا* إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا* أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًاـ الكهف /29ـ31)
إنّ موضع شاهدنا مُتعيّن في الآية الاخيرة بلفظة (مُتَّكِئِينَ).
فالاية المُباركة تطرح أربع صُورٍ من صُور نعيم هذه الجنّات، وهي : الأنهار ، والحُلي ، والثياب ، وجِلسة أصحاب هذه الجنة .
والصُور الثلاثة الأولى تُعرض ضمن التركيب الفعلي ، فيبدأ سياق الحركة من أوّل وصفٍ لهذه الجنات بالفعل ( تجري) بما يُستدلُّ عليه من دلالة الفعل المضارع على الحُدوث والتجدد ،
وتمضي الاية في حركتها ( يُحلّونَ) ،و (يلبسون) لتقف عند لفظة (مُتكئين) ؛ فينتقل السياق من تدفق الحركة الى الثبوت الذي أبرزت قيمته وبشكلٍ جلي هذه اللفظة التي بُنيت وصُبّت في قالب اسم الفاعِل .
إنّ هيئة جلوس أصحاب الجنة التي تجسدت في لفظة (مُتكئين ) من الثوابت المُلازمة لصور النعيم في جنات الاخرة ، فقد ذُكرت هذه اللفظة في سبعة مواضعٍ زيادة على الموضع الذي وردت فيه في سورة الكهف.
قال تعالى :( هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآَبٍ * جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ* مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ ـ ص/ 49ـ 51) ، وقال تعالى :(وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا * مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا ـ الأنسان /12ـ13).
وفي كل المواضع التي ذُكرت فيها (مُتكئين) جاءت منصوبة على الحالية باستثناء موضعٍ واحد وردت فيه في موقع الخبر وذلك في قوله تعالى:( إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ * هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ ـ يس / 55ـ 56).
وخُصّ الاتّكاء بالذكرلأنّه هيئة المُنعمين والملوك على أسرّتهم ، فهي جلسة أهل الترف والراحة الذين يُخدمون ؛ إذ ليس عليهم من الأعمال شيء.
وكيفية هذه الجلسة أنّها تكونُ بين الجلوس والاضطجاع يستند فيها الجالس على مرفقه وجنبه ويمدُّ رجليه ، ولمّا كان الاتكاء في معناه الاعتماد والاستناد فقد يُوهم ذلك بالتصور أنّ الاتّكاء في قوله تعالى:( مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ ـ الكهف/31) يكون بالاعتماد على الآرائك نفسها لاعلى مافيها، وحقيقة الامر أنّهم متكئون على وسائد على الأرائك أو على مساند الارائك على رأي بعض المفسرين، وتفسير (الأرائك ) يوضح ذلك.
فالارائك: جمعٌ مفرده أريكة على بناء سفينة ، والأريكة : سريرٌ عليه وسادة معها سِترٌ وهو حَجَلته، والحَجلة بفتحتين وبتقديم الحاء المهملة على الجيم كِلّة تُنصب فوق السرير ، ولا يُسمّى السريرُ أريكةً إلاّ إذا كان معه حَجلة .
وعليه يكون معنى (متكئين): قاعدين مستندين على وسائدٍ موضوعةٍ على سُرُرٍ لكنّه حذف لانّ اللفظ يدلُّ عليه مِن حيث أنّ الاتكاء جِلسةُ راحةٍ ودِعة ، ولا يكونُ ذلك إلاّ على الوسائدِ والنمارق ، وبذلك تكون لفظة ( متكئين) بصياغتها على بناء اسم الفاعِل في موضع الحال قد بيّنت هيئة جلوس أصحاب الجنة فيها كما بيّنت شبه الجملة (على الأرائك ) موضع الاتكاء المُستقرّ عليه ،.ولايعني ذلك أنّ أصحاب الجنة ثابتون على هذه الهيئة لايتحركون ،وانّما رسم لنا الاسم في هذا الموضع هيئتهم في حال الاخبار عنهم وهم في الجنة، فارتسمت لنا صورة الجلوس بتفاصيلها بهذا التعبير الموجز.
ولذا نجد أنّه لمّا لم يُرَد رسم صورة الجلوس بهذه الكيفية وإنّما الأشارة اليها جاء (الاتّكاء ) بالصيغة الفعلية وليست الاسمية قال تعالى في حقّ بيوت الكافرين :(وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ ـ الزخرف/33ـ34)فوصفَ (سُرُرأ) بجملة (عليها يتكئون ) للاشارة الى أنّهم يُعطَون هذه البهرجة مع استعمالها في دعة العيش والخلود عن التعب .
إنّ آليات رسم الصورة القرآنية كثيرة ومتنوعة يمكن أن نضيف إليها آلية البناء الصرفي في ضوء توظيفه النحوي في سياق التركيب القرآني.
وفي مقطعٍ آخر من مقاطع سورة الكهف يعرض سبحانه وتعالى لأهوال يوم القيامة فيقول جلّ من قائل :
(وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا * وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا * وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ـ الكهف / 47ـ 49).
إنّ الخطاب في (ترى) لغير مُعَيّن فهو خطابٌ لكُلِّ مَنْ تتأتّى منه الرؤية من الناس في ذلك الموقف الرهيب ، ثُمّ إنّك تلحظ إفراد المُخاطَب في لفظة (ترى) في سياقِ جمعٍ يسبقُها (نُسيّر ) وجمعٍ يلحقُها (حشرناهم ) ؛فتتهيّب تلك الصورة المهولة لما تتعرض له الارض العظيمة ، فتراها بارزةً ظاهرةً بذاتها ،إذ ليس عليها شيء يستر وجهها من مخلوقات الله فقد نُقلت الجبال الراسيات وأُزيلت ، وحالُ رؤيتها هذه على خلاف رؤيتها في عالم الحياة الدنيا في حالٍ من أحوال طبيعتها كما في قوله تعالى:
( وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ـ الحج /5) ومعنى هامدة : يابسة ميّتة لانبتَ فيها(31) ،والمعنى ذاته يتحقق ولكن بحالٍ أُخرى في قوله تعالى :(وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌـ فصلت /39)فقد استعير الخشوع بمعنى التذلل والتقاصر لحال الارض إذا كانت لانبات فيها .
فالرؤية في الايتين المتقدمتين لحال الأرض في ضوء كونها آية ًمِن آياتِ الله التي يُستدلُّ بها على الإحياء والبعث بعد الموت.
وممّا لاريبَ فيه انّ الحالة المُشاهدة للأرض في ذلك الموقف في يوم القيامة أرهب وأفظع إذ تظهر بذاتها نفسها .
إنّ بناء (اسم الفاعِل) (بارِزة) في قوله تعالى:( وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً) يُلقي بظلاله فيرسم لنا صورة البروز لهذه الارض المُعطّلة، إذ تُسهم هذه اللفظة بجرسها الخاص في تكبير هذا المعنى وتهويله ، فالناطق بها يفتح فاهه في مقطعها الأوّل بما فيه من مدِّ يتوسطُ حروف الكلمة فيمتليء الفم بهذا المدّ ،
وبذلك يشترك نظم الجملة وجرس اللفظة في تصوير المعنى ورسم الظل،فكأنّ بروزها يملأُ ناظريك فتُقبِل عليك دون غيرك .