النزعة الصوفية في جدارية محمود درويش
أ.د رفل حسن طه \ قسم اللغة العربية
إن القارئ أو المتتبع لشعر محمود درويش يجد فيه نوعاً مميزاً من التعامل مع الفكر الصوفي او الأدب الصوفي بما يشتمل عليه من بحث عن كوامن الذات وبواطنها , وتطهيرها من ادران الدنيا وأوزارها , حتى يتهيأ للإنسان أن يكون نقياً وطاهراً في رؤيته للعلاقة بينه وبين خالقه, الا انّ الامر يبدو مختلفاً مع شعراء العصر الحديث الذين يرغبون في التعامل مع هكذا نوع من الادب أو الفكر بأسلوب خاص من خلال توظيفهم لتلك الأفكار والمعاني , وتلاؤمها مع متطلبات عصرهم وقضاياهم الشخصية أو العامة .
ولعل محمود درويش خير من يمثل ذلك التيار الذي عبّر عنه في توظيفاته الخاصة في قصائد ومجموعات شعرية سبقت (جداريته), كمجموعته (العصافير تموت في الجليل) ,وغيرها , إلا أنّ ما ورد في(الجدارية) يختلف تماماً عما سبق , فالنزعة الصوفية التي تميزت بها تلك المطولة تقوم على أساس تجربة ذاتية , ومشاعر خاصة استحوذت على خيال الشاعر وعقله وهو يعيش مرحلة حرجة جداً من حياته , بسبب الأزمة الصحية الخطيرة التي مَرّ بها ,والتي أوحت له بالشعور العميق بالموت , والاقتراب الكبير منه , ولعل هذا هو الاساس الذي بنى عليه (الجدارية), وكان منطلقاً ايضاً للخوض في موضوعات أخرى غاية في الأهمية كثنائية الحياة والموت (الوجود والعدم), وثنائية (الزمان والمكان) بتمكنه من الربط بين الماضي والحاضر والمستقبل من خلال تلك الثنائية معتمداً على بعض الثوابت المهمة كتوظيف (الموروث) ,والتركيز على بعض اهم القضايا التي تركت أثرها على ادبه كالقضية الفلسطينية التي عالجها -هذه المرة – بنوع من الشفافية والعمق يختلف عن معالجاته السابقة بحكم ما يعيشه من مشاعر تتراوح بين اليأس والتفاؤل , وهو يشعر انه أفنى عمره وأدبه في سبيل الوصول الى نتيجة مرضية , وانتظار لحظة الانتصار التي باتت بعيدة جداً عن ناظريه هذه المرة , وهو يعدها مشاعر صوفية خاصة تشبه لحظة انتصار الصوفي وهو يتغلب على شهواته ونزواته الدنيوية والفوز برضا الخالق المطلق, وقد وظّف لذلك الفاظاً ومصطلحات صوفية وصوراً عبّرت عن ابداعه وتمكنه من توظيف ذلك الفكر في عصر يبحث عن الحداثة والجدة في الشكل والمضمون , وطريقة النظر الى القديم بشكل يدعو الى التميز والإبداع , بالإفادة من بعض الافكار والرؤى وتوظيفها بحسب التجربة التي يعيشها الشاعر, ولعل هذا اهم ما ورد من معالجات للتجربة الشعرية الخاصة التي عاشها درويش في (جداريته), وهو يكشف عن ذلك التلامس العميق والشفيف لمعاناة الشاعر الذاتية التي اصبحت منطلقاً يعبّر عن تجارب عامة لا يستطيع الشاعر بما يتمتع به حسنّ انساني وقومي عميق أن يتجرد منها , فبات معها وبها وجهان لعملة واحدة . ولمحمود درويش رأيه الخاص في هذا التوظيف؛ فحينما سئل عن صوفية جداريته, وعن الشعر الصوفي بشكل عام, أجاب بأن عصرنا الحديث لا يحتمل وجود شعرٍ صوفي, وان جداريته لا تندرج ضمن الشعر الصوفي من حيث هي “مغامرة الذهاب الى الاقصى , ومحاولة اتصال مختلفة بالكون , ومحاولة بحث عما وراء هذا الكون وما وراء الطبيعة, وعن الاسئلة الوجودية” رغم تعامله مع هذا النفس الصوفي في قصائد اخرى سبقت (الجدارية ) . فالتصوف والشعر أو الفن بعامة, قد يتداخلان أو يتقاطعان في نقاط عدة , فكلاهما يسعى لانتشال الانسانية من السفل الى العّلو, وهذا ما حاول درويش اثباته حينما عَدّ تجربته في (الجدارية) مغامرة أدبية يتميز خائضها بمجموعة خصائص تحمل شحنات روحية للسفر الى ابعد مما يُتَّصور, يقول:” ولا يعيني في التجربة الصوفية معناها مقدار ما يعنيني سعيها اللغوي والعرفاني في بلوغ ما لا تبلغهُ المغامرات الاخرى”. فالحديث هنا عن البُعد الميتافيزيقي للتجربة الصوفية التي يتعايش معها الشاعر الحديث وهو يخوض تجارب انسانية تحمل طابعاً عاطفياً روحانياً , يتجاوب مع الذات حيناً ومع مكونات الكون الاخرى حيناً آخر. ولا شكَّ في أن للخيال دوراً فاعلاً في تجسيد تلك المناظر التي لا يستطيع العقل -أحياناً- استيعابها أو التعبير عنها. فالخيال يعمل على كشف المعاني الخفية في أغوار النفس الإنسانية فضلاً عما في الوجود من اسرار غامضة تستعصي-أحياناً- على مفاتح العقل, ولا يعني هذا خُلُّو تلك الموضوعات من العاطفة فما يحرك خيال الشاعر وفكره عاطفة جياشة متساءلة حائرة حيناً , ووادعة مستكينة حيناً آخر حينما سيطرت عليه ثنائيات قاهرة أوصلته أحياناً الى (اللا جواب) أو(اللا حل), ولعل من ابرز تلك الثنائيات والمتقابلات الضدية التي تضمنتها (الجدارية)هي :
اولا : ثنائية الحياة والموت
إن تجربة درويش الطويلة مع المرض, واستعداده الدائم لاستقبال الموت قد حدّد موقفه منه, ولعل هذا ما دعاه الى التصريح بأنّ جداريته تحمل نفسا صوفياً يعكس رؤية الصوفي الى الحياة بأنها جسر يؤدي الى فضاء أوسع وأرحب ,وحياة أخرى تعطي للإنسان ما افتقده في دنياه التي لم يجن منها سوى الاثام والأوزار ,ولعل فيما سبق إشارة واضحة الى مدى ايمان درويش بأن الخلود في الحياة ليس للجسد الفاني بل للعمل الباقي بعد رحيل الانسان, وعمل درويش هنا هو ما سيخلفه من ارث عظيم استنزف عمره الطويل. ولعلها النظرة الايجابية للحياة والموت التي عبَّر عنها بقناعته أن”سؤال الخلود لا جواب عليه منذ ملحمة (كلكامش) حتى اليوم “, يقول :
وجدتُ نفسي حاضراً ملء الغياب .
وكلما فتشت عن نفسي وجدتُ
الآخرين
إن تلك الازدواجية التي اشرنا إليها سابقاً تعكس صورة درويش وهو محكوم بالثنائيات في علاقاته مع الذات ومع العالم الخارجي ,في جدلية مفتوحة طالما عكسها في شعره , فهو يعترف بأنه محاصر – كغيره من الفلسطينيين – في وجوده وتجربته , ومحاصرته تلك تقع ضمن ثنائية ( الأنا والآخر) التي تعكس جدلية العلاقة والهوية والثقافة والتاريخ , يقول :
وأنا المسافر داخلي
وأنا المحاصر بالثنائيات
لكن الحياة جديرة بغموضها.
وفي موضع آخر يقول :
. . . وعليَ وحدي
أن أرى , وحدي , مصائرنا , . . .
وكأن (كلكامش) هو الذي يتكلم, يقول في ملحمته “هو الذي رأى كل شيء الى تخوم الدنيا, هو الذي عرف كل شيء وتضلع بكل شيء”, ولعل هذا الأساس الذي بنيت عليه جداريته , فجدلية الواقع والمتخيل تتجسد في مقدمة قصيدته , إذ يتداخل الواقع مع الحلم , وهو يشعر بالموت قد دب فيه , بل انه قد رآه رأي العين ,ولم يتخيل انه سيعود ثانية الى الحياة, بيد انه بات يتمنى الموت الذي سيشفيه من آلامه وجراحاته ويضمه ثانية الى الأرض/الوطن نقياً صافياً كما ولدته أمه, معتمداً في رسم صوره على توظيف(اللون الأبيض) الذي استغله بشكل واسع للتعبير عن حالة الصفاء والنقاء التي يستشعرها
ثانيا : ثنائية الزمان والمكان
يأخذ الزمان والمكان عند درويش ابعادا مختلفة بحكم التجربة الشعرية التي يعيشها ,والتي لا بد أن تصب في احد مجريين هما الزمان أو المكان أو كليهما معاً. أما في (جداريته) فان تلك الثنائية تتحقق بأروع أشكالها حينما يتجرد الزمان والمكان من وجودهما الواقعي الى عالم الوهم والتخيل , فالزمان الذي قامت عليه الجدارية هو لحظات غلبت الشاعر وأحالته الى حالة من الوقوع في الزمن الآخر. والذي نقصد شعوره بأنه قد مات وانتقل الى زمان آخر أو عالم آخر . وكذلك الحال مع (المكان) حينما شعر درويش بأنه قد انتقل – من خلال حالة الموت – من الأرض الى السماء مع تواجد خيوط واهية تربطة -أحياناً- بالواقع في إشارة الى(الممرضة) التي تجيء وتذهب للاطمئنان الى حالته . وبالرغم من اعتماد الجدارية فكرة الحياة والموت كما اشرنا الى ذلك سابقاً ,فإن ثنائية الزمان والمكان تعد أهم الركائز التي اسهمت في تحقيق تلك الفكرة وإثباتها, فالرحلة الزمكانية التي عاشها درويش في جداريته ,والانتقال بها بين الحقيقي والمتخيل ,قد أحالته الى حالة من التشتت الفكري, وتتجسد ثنائية الزمان والمكان في محاولة الشاعر الإفادة من قصص الأنبياء وتوظيفها في تقديم أفكاره وتطلعاته نحو حياة أفضل من حياته الراهنة , يقول :
وأنا أريدُ , أريد أن أحيا . . .
فلي عمل على جغرافيا البركان ,
من أيام لوطٍ الى قيامة هيروشيما
واليبابُ ضهو اليبابُ . كأنني أحيا
هنا أبداً , وبي شبق الى ما لست
أعرف , قد يكون ((الآن )) أبعد .
فـ(زمان) انقلاب الأرض بقوم لوط يعدّ امتداداً لانفجار هيروشيما المهول رغم اختلاف (المكان) الذي لا يغير من الأمر شيئاً ,الا أن هناك أمر تجدر الإشارة إليه ؛ وهو أن الذي خسف الأرض بقوم لوط هو الله تبارك وتعالى لذنب اقترفوه , أما القنبلة الذرية التي قلبت الأرض بسكانها الأبرياء في هيروشيما فهي من صنع البشر, وقتلها لمئات الآلاف من الناس كان بأمر البشر أيضا . ورغم أن النتيجة واحدة وهي صيرورة الحياة في تلك الأماكن الى خراب , الا أنّ اشارة الشاعر الخفية الى لؤم إنسان وقسوته وطغيانه ليس له حدود ,وقد يربط ذلك كله بأيام جهاده ضد المحتل ويأسه -أحياناً – من الخلاص من هيمنته , بقوله : ( قد يكون (الآن) أبعد ) بتآلف الزمان مع المكان , ولعل تلك الفكرة قد سيطرت على جانب مهم من حياته ,وهذا ما حدا به الى تمني الماضي مرة , والاستئناس بما قد يحمله له الحاضر مرة أخرى , و”كأنما هو يكثف في (ألان) أقسام الزمان ليخلق من التحامها نوعاً من (الأبدية) , يحاول أن يحيا في حاضر مستمر عن طريق ضرب من (الحضرة المليئة) التي تنّدُ به عن الصيرورة . وتنأى بوعيه عن ندم الماضي وجزع المستقبل” ,يقول:
أين ((أيني)) ألان ؟ أين مدينة
الموتى , وأين أنا ؟ فلا عدمُ
هنا في اللا هنا . . .
فمفردات مثل (هناك , (هنا) , خطاي , الفضاء , أين (أيني) , هنا , اللا هنا ) تملأ لوحة المكان عنده , وهي تدّلل بوضوح على حالة التوتر الذهني لديه .