التعبير القرآني في سورة الفتح (الأسماء انموذجا)  ، ج 1
ا.د. فلاح رسول حسين
    القرآن الكريم معجزة باقية على مر الليالي والأيام ، لم يقو أحد على الإتيان بمثله أبدًا كما صرح  بنفسه في أكثر من آية ، معجزة في كل شيء ، ومن جوانب هذا الإعجاز الإعجاز اللغوي ذلك الإعجاز الذي لم يقتصر على آياته أو جمله بل ألفاظه أيضا ، فاختيار اللفظة وترتيبها كان يسير على وفق نظام دقيق وعجيب بلا حشو أو اضطراب  ، فاللفظة تُختار لأجل غاية ما ،  وتُوضع في هذا المكان لتؤدي دلالة معينة ، وقد اختص هذا المقال بالايات الثلاث الأولى من  سورة الفتح المباركة.
 قال تعالى : (( إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا *  لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا *  وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا)) [الفتح : 1- 3]
     نلاحظ في الآيات المباركات  عدة مسائل   تتعلق باختيار لفظة ما  وأولى تلك المسائل  أنه تعالى  أسند الفتح لنون العظمة  أي انه تعالى أسند الفتح إلى الضمير (نا) واسند الأشياء الأخرى إلى الاسم الظاهر وضميره ، وللمفسرين عدة توجيهات  في هذه المسألة  ونفتتح تلك التوجيهات بقول الآلوسي : (( يمكن أن يكون في إسناد المغفرة إليه تعالى بالاسم الأعظم بعد إسناد الفتح إليه تعالى بنون العظمة إيماء إلى أن المغفرة مما يتولاها سبحانه بذاته وأن الفتح مما يتولاه جل شأنه بالوسائط ، وقد صرح بعضهم بأن عادة العظماء أن يعبروا عن أنفسهم بصيغة المتكلم مع الغير ؛ لأن ما يصدر عنهم في الأكثر باستخدام توابعهم … )). وهناك أسباب أخرى بعضها يتعلق بالمسند إليه وبعضها يتعلق بالمسند  : ((وإنما أسند فعل( ليغفر ) إلى اسم الجلالة العلَم وكان مقتضى الظاهر أن يسند إلى الضمير المستتر قصداً للتنويه بهذه المغفرة لأن الاسم الظاهر أنفذ في السمع وأجلب للتنبيه وذلك للاهتمام بالمسند وبمتعلقه لأن هذا الخبر أُنف لم يكن للرسول صلى الله عليه وسلم علم به ولذلك لم يبرز الفاعل في ( ويُتمّ نعمته عليك ويهديك ) لأن إنعام الله عليه معلوم وهدايته معلومة وإنما أخبر بازديادهما .)).
     أما عن  إسناد النصر لله تعالى في (وينصرك الله) ، ففي هذا الإسناد  آراء عديدة منها ما ذكره  أبو حيان : ((وأعيد لفظ الله في : ( وينصرك ألله نصراً ) ، لما بعد عن ما عطف عليه ، إذ في الجملتين قبله ضمير يعود على الله ، وليكون المبدأ مسنداً إلى الاسم الظاهر والمنتهى كذلك )) ، إذن عنده سببان : البعد ، وتناسب المبدأ والمنتهى ، ولعل الرأي الثاني ( التناسب) أكثر استساغا وأسرع قبولا . وذكر الالوسي آراء أخرى مهمة  معضدة بأدلة قرآنية قائلا : (( إظهار الاسم الجليل مع النصر قيل : لكونه خاتمة العلل أو الغايات ولإظهار كمال العناية بشأنه كما يعرب عنه إردافه بقوله تعالى : ( نَصْراً عَزِيزاً ) ، وقال الصدر : أظهر الاسم في الصدر وهنا لأن المغفرة تتعلق بالآخرة والنصر يتعلق بالدنيا فكأنه أشير بإسناد المغفرة والنصر إلى صريح اسمه تعالى إلى أن الله عز وجل هو الذي يتولى أمرك في الدنيا والآخرة ، وقال الإمام : أظهرت الجلالة هنا إشارة إلى أن النصر لا يكون إلا من عند الله تعالى كما قال تعالى : (( وَمَا النصر إِلاَّ مِنْ عِندِ الله )) [ آل عمران : من الآية 126 ، الأنفال : من الآية  10 ] وذلك لأن النصر بالصبر والصبر بالله قال تعالى : (( وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بالله )) [ النحل : من الآية 127 ] لأنه سكون القلب واطمئنانه وذلك بذكر الله (( أَلاَ بِذِكْرِ الله تَطْمَئِنُّ القلوب )) [ الرعد : من الآية 28 ])) ، وكلها آراء قيمة ومقبولة ليس فيها أدنى تعسف أو تكلف ، فضلا عن أنها معززة بشواهد من الكتاب العزيز .  وقد أشار ابن عاشور الى أهمية النصر مبينا مزايا الاسم الظاهر فقال :   ((وإنما أظهر اسم الجلالة في قوله : ( وينصرك الله ) ولم يكتف بالضمير اهتماماً بهذا النصر وتشريعاً له بإسناده إلى الاسم الظاهر لصراحة الظاهر والصراحة أدعى إلى السمع ، والكلام مع الإظهار أعلق بالذهن كما تقدم في  (ليغفر لك الله ) )).
ونجد أيضا  في الآيات المباركات ذكر (الذنب) فما المقصود بالذنب ؟ وما سبب التعبير به ها هنا ؟ ، وهل النبي صلى الله عليه وآله وسلم أذنب ؟ وهل بالإمكان أن يذنب ؟ هناك آراء متعددة في المسألة ، وقبل أن نعرض رأي المفسرين نذكر معنى الذنب لغة ، فهو عند الخليل : ((الإثم والمعصية )) وعند الراغب ((والذنب في الأصل الأخذ بذنْب الشيء ، يقال ذنبْتُه أصبتُ ذنَبه ، ويستعمل في كل فعل يُستوخم عقباه اعتبارا بذنْب الشيء ولهذا يسمى الذنب تَبِعَة اعتبارا لما يحصل من عاقبته )) وفي المعجم الوسيط (( ارتكاب أمر غير مشروع)) وننتقل لرأي المفسرين، قال ابن عطية : ((وقوله : ( ما تقدم من ذنبك وما تأخر ) قال سفيان الثوري : ( ما تقدم ) يريد قبل النبوءة . ( وما تأخر ) كل شيء لم تعلمه وهذا ضعيف ، وإنما المعنى التشريف بهذا الحكم ولو لم تكن له ذنوب البتة ، وأجمع العلماء على عصمة الأنبياء عليهم السلام من الكبائر ومن الصغائر التي هي رذائل ، وجوز بعضهم الصغائر التي ليست برذائل ، واختلفوا هل وقع ذلك من محمد (عليه السلام) أو لم يقع ، وحكى الثعلبي عن عطاء الخراساني أنه قال : ( ما تقدم ) هو ذنب آدم وحواء ، أي ببركتك ( وما تأخر ) هي ذنوب أمتك بدعائك … )) . وعرض الطبرسي رأي أصحابه قائلا : ((و لأصحابنا فيه وجهان من التأويل ( أحدهما ) أن المراد ليغفر لك الله ما تقدم من ذنب أمتك و ما تأخر بشفاعتك … و حسنت إضافة ذنوب أمته إليه للاتصال و السبب بينه و بين أمته … ( و الثاني ) ما ذكره المرتضى (قدس الله روحه) أن الذنب مصدر و المصدر يجوز إضافته إلى الفاعل و المفعول معا فيكون هنا مضافا إلى المفعول و المراد ما تقدم من ذنبهم إليك في منعهم إياك عن مكة و صدهم لك عن المسجد الحرام …  )) وهناك أوجه أخرى أشار لها  الطبرسي بقوله : (( و قيل أيضا في ذلك وجوه أخر ( منها ) إن معناه لو كان لك ذنب قديم أو حديث لغفرناه لك ( و منها ) أن المراد بالذنب هناك ترك المندوب … ( و منها ) أن القول خرج مخرج التعظيم و حسن الخطاب كما قيل في قوله عفا الله عنك و هذا ضعيف لأن العادة جرت في مثل هذا أن يكون على لفظ الدعاء)) ولصاحب الميزان  رأي في المراد بالذنب : ((فالمراد بالذنب – و الله أعلم – التبعة السيئة التي لدعوته (صلى الله عليه وآله وسلم) عند الكفار و المشركين وهو ذنب لهم عليه كما في قول موسى لربه: (( وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ )) [الشعراء : 14] و ما تقدم من ذنبه هو ما كان منه (صلى الله عليه وآله وسلم) بمكة قبل الهجرة، و ما تأخر من ذنبه هو ما كان منه بعد الهجرة )) .
    وأقرب الأوجه في نظر الباحث : (لو كان له ذنب ، ويليه ترك المندوب ، ويليه التبعة السيئة ، ويليه ذنوب أمته ) ، وأسباب هذا الترجيح كون بعضها بعيدا عن التكلف ، وبعضها معضد بدليل نقلي كما هو الحال مع (التبعة السيئة ) .
     ومن الجدير بالذكر ان رأي (ذنوب أمته) قد جرى على عادة العرب (( وذلك أنهم يقولون : نحن هزمناكم يوم كذا او كذا ، أي آباؤنا هزموا آباءكم . ومنه قوله تعالى (( وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا )) [البقرة : من الآية 72]  ،أي وإذ قتل آباؤكم لأن الذين شاهدوا النبي صلى الله عليه وسلم ، لم تكن هذه القصة لهم ، وإنما كانت للذين شاهدوا موسى عليه السلام )) ، إذًا لا غرابة فيه ، لكن الباحث يرى أنّ تلك الآراء أقرب منه ،   والأَوْلَى أن لا نلجأ إلى الخدش بعصمة الأنبياء ((إذ لو خدشنا في عصمة الأنبياء.. لأنكرنا فلسفة وجودهم؛ لأنّ النّبي ينبغي أن يكون قدوة في كلّ شيء، فكيف يمكن المذنب أن يفي بهذا المنهج ويؤدّي حقّه؟! زدْ على ذلك، فالمذنب بنفسه يحتاج إلى قائد يرشده ويدلّه ليهتدي به. ))
و نجد أيضا اختيار لفظة (صراطا) منكرة ، وتنوين (صراطا) للتعظيم .
 

شارك هذا الموضوع: