المقام مصداق من مصاديق الدلالة القطعية (قراءة في كتاب سيبويه)
المقام مصداق من مصاديق الدلالة القطعية (قراءة في كتاب سيبويه)
أ.د.حيدر عبد علي حميدي العامري
قسم اللغة العربية/كلية التربية للعلوم الإنسانية/جامعة كربلاء
قيلَ في المقام :إنّ ” …لكلِّ كلمةٍ مع صاحبتها مقامًا ، ولكلِّ حدٍّ ينتهي إليه الكلام مقامٌ ، وارتفاع شأن الكلام في باب الحسن والقبول وانحطاطه في ذلك بحسب مصادفة الكلام لما يليق به ، وهو الذي نسمّيه مقتضى الحال” ، ويكون المقام(مقتضى الحال) دلالة قطعية في كثير من النصوص فـ “غايات الأداء يصبح لكلّ غاية منها عبارات معيارية خاصّة من الناحية النظرية ، ولكن مطالب الاستعمال ومناسبة المقام ربما تطلبت نقل عبارات ذات غاية محددة إلى غاية أخرى” ، وهذا ما نجده في النصوص الآتية :
يقول سيبويه : “ولو قال : ما كان مثلُك أحدًا ، أو ما كان زيدٌ أحدًا ، كان ناقضًا ؛ لأنّه قد عُلِمَ أنّه لا يكون زيدٌ ولا مثله إلا من الناس …إلا أن تقول :ما كان زيدٌ أحدًا ؛ أي من الأحدين ، وما كان مثلك أحدًا على وجه التصغير” ، فجملتا (ما كان زيدٌ أحدًا) و (وما كان مثلك أحدًا) فيهما تناقض ؛لأنّ ” الفائدة إنّما تكون في الخبر دون الاسم ، فإذا قلت : ما كان مثلك أحدًا ، فمثلك هو الاسم ، وأحد ، هو الخبر، والنفي واقع على أحد ، ومعناه : إنسان ، كأنّك قلت : ما كان مثلك إنسانًا ، فهذا محال ، إلا أن تريدَ معنى الوضع منه أو الرفعة له وإن كنت تعتقد أنّه إنسان”، فمقام التصغير هو الذي جعل التركيب صحيحًا بعد أن كان يحتمل النقض .
ومنه قوله أيضًا : “ومثله في الابتداء وليس على فعل قوله عزّ وجلّ : قالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ [الاعراف/164] لم يريدوا أن يعتذروا اعتذارًا مستأنفًا من أمر ليموا عليه ولكنّهم قيل لهم : (لِمَ تعظون قومًا ؟) قالوا : موعظتنا معذرة إلى ربكم . ولو قال رجل لرجل : معذرةً إلى الله وإليك من كذا وكذا، يريد اعتذارًا ، لنصبَ” الآية المباركة المذكورة في النص جاءت في مقام جواب عن سؤال طُرِح عليهم وليس في مقام اعتذار من أمر؛ لذلك جاءت لفظة (معذرة) مرفوعة . أمّا إذا كان المقام مقامَ اعتذار من أمر ما فإنها تكون منصوبة ، كما لو قال رجلٌ لرجلٍ ، ويريد أن يعتذر له من أمر ما: معذرةً لك ، بالنصب، فالمقام هو الفيصل في اختيار الحركة الاعرابية في مثل هذا الموضع.
ومنه قوله أيضًا : “هذا باب ما يجري من الشتم مجرى التعظيم وما أشبهه ، يقولُ: أتاني زيدٌ الفاسقَ الخبيثَ : لم يرد أن يكرره ولا يعرّفك شيئا تُنكره ، ولكنه شتمه بذلك. وبلغنا أنّ بعضهم قرأ هذا الحرف نصبًا : “وامرأته حمّالةَ الحطبِ” لم يجعل الحمّالةَ خبرًا للمرأة ، ولكنّه كأنه قال : أذكرُ حمّالةَ الحطب ، شتمًا لها ، وإن كان فعلًا لا يُستعمل إظهارُه” ففي جملة (أتاني زيدٌ الفاسقَ الخبيثَ) يُحتمل أن يكون وصفَ (زيد) بالفاسق الخبيث ، ويُحتمل أن يكون شتمًا ، فهنا المقام الذي يفصل ويقطع في الأمر، فيكون منصوبًا على الشتم ، كما جاء في قوله تعالى : وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ [المسد/4] ، فقد جاءت القراءة بالنصب (حمّالة) بالذمّ والمعنى : أعني حمّالةَ الحطبِ أي المقام مقام شتم وذم.
مصادر المقالة :
زاد المسير في علم التفسير ، أبو الرفرج جمال الدين عبدالرحمن بن علي بن محمد الجوزي القرشي البغدادي ، ط.3 المكتب الإسلامي ، بيروت-لبنان ، 1984م .
الكتاب ، سيبويه ، تحق: عبد السلام محمد هارون ، ط.3 ، مكتبة الخانجي ، القاهرة ، 2006م .
الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويلفي وجوه التأويل ، جار الله محمود بن عمر الزمخشري ، تحق : الشيخ عادل أحمد عبد الموجود والشيخ علي محمد معوض ،ط.1، مكتبة العبيكان ، الرياض- سعودية ، 1998م .
اللغة العربية معناها ومبناها ، د.تمام حسان ، ط.3 ، عالم الكتب ، 1998م .
مفتاح العلوم ، أبو يعقوب ابن أبي بكر السكاكي ، ضبطه : نعيم زرزور ، ط.2 ، دار الكتب العلمية ، بيروت – لبنان ، 1987م .
النكت في تفسير كتاب سيبويه ، أبو الحجاج يوسف بن سليمان بن عيسى الأعلم الشنتمري (410-476هـ) ، تحق: رشيد بلحبيب ، 1999م .