علم دلالة القرآن 
 أ.د. ليث قابل عبيد 
        إنّ للمعتقد تأثيراً مفصلياً في التكوين المعرفي ورسم حدود الفكر، فلو تأملنا كتاب (نحاة المعتزلة) الذي ينسبه أهل التراجم إلى محمد بن اسحاق()، يشير إلى جملة من الدلائل التي يمكن استجلاؤها منه؛ فالتضايف بين لفظتي هذه العبارة يفتح الباب أمام البدائل الأخر: فيمكن أن يكون للشيعة نحويون،  وللأشاعرة نحويون ، وللخوارج نحويون ، وهكذا، بمعنى : أنّ للمعتقد تأثيرًا في التوجيه المعرفي والفكري.
ولو تمعّنا أكثر في كتب تأريخ العربية وتراجم علمائها وسيرهم ؛ لوجدنا إشارات تؤكّد استنتاجي المذكور آنفاً ، ومنها ما ألمح إليه ابن حجر العسقلاني (ت852ه) في توصيفه علماء العربية البصريين بقوله : (( كان أهل البصرة أصحاب أهواء إلاّ أربعة فإنهم كانوا أصحاب سُنَّة : أبو عمرو بن العلاء، والخليل بن أحمد ، ويونس بن حبيب ، والأصمعيّ ))() ، فلو لم يكن للمعتقد تأثير في تكوين العلماء ؛ مّا اعتنى ابن حجر بمتابعة شخصياتهم ()
وربما يعود هذا التأثير في أصله إلى كون المعتقد جزءًا من النسق الثقافي الذي يتحكم بالفرد والمجموع ، فمن الثابت أنّ الثقافة لها تأثير بالغ في فهم الإنسان لما حوله ومن حوله ، وتوجيه سلوكه للتعامل معهما().
فالقرآن الكريم في أصله نصّ، والنصّ كما هو معلوم له تكوين لفظي محدّد ، أُنتجَ للدلالة على معنى بعينه ، لكن ذلك المعنى ليس واحدًا في أذهان المتلقين ، فربما تتعدّد مستويات فهمه عند المتلقين وفقاً لمداخل وعيهم التي ترجع إلى خلفياتهم الثقافية ، ولكن هذا التعدّد في الفهم لا يعني أنّ النصّ متعدّد ، بل يعني أن الفهم متعدّد.
ويؤكّد التوصيف الذي سيق آنفاً : أن وحدة النصّ تعني أنّ له خطابًا معيّنًا ، أما تعدّد الفهم للنصّ فيعني أنّ تلقي الخطاب متعدّد ، لذا يجب علينا أن نفرّق بين الخطاب وتلقيه ().
وبناءً على ما مرّ : ينبغي لنا أنّ نحدّد كمون ( التفسير ) لا بوصفه علمًا بل منهجًا في الحقلين السابقين ، فالتفسير لا ينضوي ضمن حقل الخطاب القرآنيّ ، بل هو داخل ضمن حقل تلقي الخطاب القرآني ؛ أي :أنّه فهم الخطاب ؛ لأنّه   (( يرتبط بالموقف الذي تتمّ فيه قراءة النص ، ويعبرون عن ذلك بالوظيفة الاتصالية التي تستحضر الهدف المقصود وسياق الحدث وإطاره ، ولا يقتصر على النصّ  فقط، بل يعتمد على تراكم معقّد من معنى النصّ وعوامل تكوين الموقف وفهمه ))().
لذا نجد اختلافًا بيّنًا بين علماء التفسير في توجيه دلالات النصّ القرآنيّ ، خصوصاً في الآيات ذات الصِّيغ المشكلة التي عُبِّر عنها بـ ” المتشابهات ” ()، إذ كانت مواجهتهم لآيات توحي بما لا ينسجم وما يعتقدون ، مؤديةً إلى البحث عن مساند غير لغوية للتوفيق بين الوجهين ؛ للخلوص إلى توجيه مُرْضٍ (( ولا شكّ أن هناك مرجعيات أخرى غير اللغة ، وهذه المرجعية هي قصدية المولى جلّت قدرته التي يمكن البحث عنها في مجال آخر غير اللغة كأن يكون ” العقل عند المعتزلة والشيعة “، أو ” النقل كما عند المحدّثين “، أو” القرآن نفسه كما هو عند الجميع “. بناءً على ذلك ، إنّ أي تأويل وتوجيه لكي يكون مقبولًا لا بدّ من أن يكون خاضعًا لهذه المرجعيات ، أو بعبارة أخرى : لا بدّ من توافر إمكانية لغوية ومقبولية شرعية ” العقل أو النقل ، أو القرآن نفسه ” لقبول أي توجيه أو تأويل للنصّ القرآنيّ ))().
ومن هنا يمكننا فهم حضور التأويل في المنهج التفسيريّ للنصّ القرآنيّ ، لا على أنّه مقصود لذاته ، بل لكونه قنطرة العبور من ضيق الدلالة الظاهرية إلى سعة التدليل ، بالاستناد إلى الحجج العقدية ؛ لذا (( كانت … هذه الحقائق الكلامية سببًا في تأويل كثير من النصوص القرآنية ، تلك التي تفيد بمعناها الظاهريّ ما يتعارض مع الحقائق التي قال بها علماء الكلام ، بحيث يمكن أن نقرّر دون كبير تجوّز : أنّ من أسباب التأويل ملاحظة الاعتبارات العقدية الدينية بغضّ النظر عن مدى وفاء النصّ بالشروط الأساسية لتركيب الجملة العربية : إعرابًا ، وبناءً ، وتطابقًا ،    وترتيبًا ))().
فالتدليل ، سلوك حجاجي يستعين بالثقافةِ مستندًا إلى توجيه النصّ وإقناع المخاطَب وتفعيل التواصل التأثيري ، وما يفعله المفسّر في اعتماد الحجج العقدية لتوجيه النصّ القرآنيّ ، إنما هو سعي إلى خلق التواصل التأثيريّ في أذهان المتلقين.
 

شارك هذا الموضوع: