التدليل الثقافي عند مفسري الإمامية
أ.د. ليث قابل عبيد
التدليل الثقافيّ سلوك اعتمده علماء اللغة في تفسير الظواهر وا لنصوص ؛ للكشف عن طرائق الناطقين في صوغ لغتهم : صوتًا وبنيةً وتركيبًا ودلالةً ، فالنحو – مثلًا – (( إنما هو – في حقيقته– التعبير العلميّ عن القوانين التي يتبعها كلّ قوم في صوغ ألفاظهم ،وفي تركيب عباراتهم لأداء المعاني المركّبة . وعمل النحويين إنما هو الاجتهاد في استنباط هذه القوانين ، ومحاولة تفسيرها وربط بعضها ببعض )) ، وينسحب هذا التوصيف على بقية علوم العربية التي لا يختلف عن دأبِها منهجُ تفسير القرآن الكريم.
وممّا يجدر المقام إلى الإشارة إليه ، أنّ الباحثين المحدثين أكّدوا خاصّيّة النصّ القرآنيّ ، ممّا يفضي إلى خاصّيّة العلوم التي تتعامل معه ، حتى دعا كثير منهم إلى ضرورة تأسيس علوم خاصّة بالقرآن الكريم ؛ لأنّ علوم العربية التي يستعان بها لفهم النصّ القرآنيّ قاصرة في كثير من مفاصلها عن الإحاطة بالغاية المرجوة منها ؛ لذا دعا بعضهم إلى نحو قرآنيّ ، وصرف قرآنيّ ، ومعجم قرآنيّ. ويمكن لنا أن نطرح علم دلالة قرآنيّاً : نكشف به مرامي النصّ القرآنيّ ، عبر تحليلات المفسّرين وقراءتهم للخطاب القرآنيّ ، وهو ما سيكشف عنه مقالتنامن خلال عرض محاولات علماء الإمامية في تفسير النصّ القرآنيّ وتوجيه دلالته .
فللقرآن الكريم نظام صياغي محدّد البناء غير محدد الدلالة ، لا يمكن للنظام اللغوي البشري أن يحلّ محلّه ، لكنّه يمكن أن يفيد في فهمه إلى حدود معينة؛ إذ (( كان القرآن الكريم دقيقًا في اختيار ألفاظه وانتقاء كلماته ، فإذا اختار اللفظة معرفة ، كان ذلك لسبب ، وإذا انتقاها نكرة كان ذلك لغرض . كذلك إذا كان اللفظ مفردًا كان ذلك لمقتضى يطلبه ، وإذا كان مجموعًا كان الحال يناسبه ، وقد يختار الكلمة ويهمل مرادفها الذي يشترك معها في بعض الدلالة … وكل ذلك لغرض يرمي إليه في التعبير وهكذا دائمًا لكل مقام مقال في التعبير القرآني)) .
لذا نجد المفسّر الإماميّ، يميل إلى استعمال مصطلح ” المراد ” أكثر من مصطلح ” يدلّ ” ؛ لأنّ نسقه في التفسير يقوم على :
– التدليل : أي حشد الأدلة ؛ لإقناع المتلقي بما يعتقد ، وهو دأب حديث يصوّر إنتاج اللغة على أنّه كان ليوجِّه لا ليدلّ ، وما الدلالة إلاّ قناة أولية تعين المخاطِب على إقناع المخاطَب ، وهو ما يعرف بتوجّه ” التداولية المدمجة ” أو ما يسمّيه بعضهم ” الحجاج اللسانيّ ” الذي أسّس له اللساني الفرنسي ” ديكرو ” ؛ إذ يصوّر هذا التوجّه (( أنّ كثيرًا من أفعال التلفظ تتميز بوظيفة حجاجية ، وتتمثل هذه الوظيفة في كون هذه الأفعال تسعى إلى جعل المخاطب يصل إلى نتيجة معينة أو ينصرف عنها ، وأقل بساطة من ذلك ، ربما الملاحظة التي تقول إنّ هذه الوظيفة تخلف علامات في بنية الجملة ذاتها : إن القيمة الحجاجية للملفوظ ليست فقط نتيجة للمعلومات التي يسوقها ، ولكن الجملة يمكنها أن تتضمن صريفات وعبارات وصيغاً مختلفة تؤدي إضافة إلى وظيفتها الإخبارية وظيفة منح الملفوظ جهة حجاجية )).
– المقصد : لأنّ التدليل في المنهج : حوارًا وتأليفًا ؛ ليس الغاية منه تحديد الدلالة فحسب ، بل الانطلاق من هذا التحديد إلى تعيين المقصد ، وهذا السير المنهجي هو جزء من بناء إستراتيجية التحليل للمفسرين الإماميين ، التي سيعمل الباحث على رصدها بعون الله تعالى لاحقا ، فالحجاجيون اللسانيون المعاصرون لا يرون المضمون الذي يكتنزه اللفظ هو كل ما يعين على التواصل ، ولكن هناك مضامين أخرى يضيفها الموقف والسياق الاجتماعي وسواهما ، وبضمّ هذه المضامين يمكننا كشف المقاصد المُعِينة على التوصيل ونجاح التواصل ؛ إذ يقرّر ديكرو أنّ(( تصوّرنا … يقضي بأنه توجد في أغلب الملفوظات ، بعض الظواهر التي تتحدد قيمتها التداولية بشكل مستقلّ عن مضمونها ،وهذه الظواهر لها وجود فعلي إلى درجة أنه لا يمكن اعتبارها دائما هامشية … بل يتعلق الأمر بعلامات منطبعة في البنية التركيبية)).
فهاتان الآليتان عماد الإستراتيجية التفسيرية عند الإماميين ؛ إذ تجد المفسّر لا يتوقف عند حدود الدلالة ، و يغوص إلى ما هو أعمق من ظاهرها ، ويربطها بسياقات ورودها ، ويقابلها بما يقاربها من سنن العرب في الصياغة ، وغير ذلك من الحجج العقلية والأدلة المنطقية ، كلّ ذلك لبناء تدليل مقنع للمتلقي.
وربما يعود هذا المنهج إلى الغاية المنشودة من تفسير النصّ القرآنيّ ، فالغاية كما أعتقد ليست تفسير الآيات الكريمات فقط ، وإنما هناك غاية أبعد وهي ؛ تأكيد العقيدة التي يؤمن بها من خلال إعادة توجيه النصوص القرآنية ، وربط المقاصد لتشخيص المرامي الكلية التي يؤشرها القرآن الكريم ، وهي في المحصلة تدعم بشكل غير منظور العقيدة.
وهذا الدأب تطوّر كثيرًا في سير التفسير القرآني عند المحدثين من علماء الإمامية، فالسيد محمد باقر الصدر(قدس) دعا إلى التفسير الموضوعي ، وهو تفسير ينطلق مما أشرت إليه من آليتين ، فالموضوع في القرآن الكريم واحد لكل مفهوم ، ولا يمكن الكشف عن ذلك الكلّ إلاّ في ضوء مراقبة سيره وتحوّلاته في السياقات القرآنية المتنوعة ، ويؤدي ذلك الكشف في النهاية إلى أنّ الغاية من التفسير لا تعني الكشف عن الدلالة ، وإلا فإنها محدّدة حتى في التفسير التجزيئي ، ولكن الغاية منه هي تعيين المقاصد.
وقد انكشفت هذه الإستراتيجية أكثر في كتاب ” مقاصد السور في القرآن الكريم ” للسيد محمد تقي المدرسي وهو من العلماء الإماميين المعاصرين ، وله تفسير معروف للقرآن الكريم بعنوان ” من هدي القرآن ” ، ففكرة هذا الكتاب تنطلق من أن لكل سورة مقصدًا كلّيًّا يمكن أن يكون كاشفًا لدلالات النصوص الواردة تحته (( فآيات القرآن من نسق واحد ، بعض آياته مثل بعضها ؛ لأنّ أصولها واحدة وبلاغتها واحدة ، وفي نفس المستوى ؛ إذ كل آيات القرآن تدلّ على الإعجاز ، كما تدلّ على أنها من الله عزّ وجلّ ، وليست من البشر ، ولكن – في الوقت نفسه – نجد أن لكل آية من آيات القرآن موضوعًا خاصًا بها ، وموضوعات أعم بالنسبة إلى سياقها ، وأعمّ بالنسبة إلى السورة الواحدة التي نجد الآية فيها)).
فالمفسّر الإمامي للقرآن الكريم ؛ ينطلق من ثقافة حشد الأدلة ؛ لبناء تدليل متكامل ؛ يدعم نسقه المضمر الذي يتحكم بوعيه للمعرفة الدينية .
وهذه الإستراتيجية التي تحدّثنا عنها يمكن أن تسهم في بناء علم دلالة للقرآن الكريم ؛ لأنّ الوحدات المعجمية التي تكوّن تراكيب آياته وسوره ، غير محصورة بالمعاني التي يحدّدها التداول العربي ، وتخرج عنه إلى دلالات جديدة ؛ بحكم منهجية المقاصد التي ثبّتها المفسّر في سيره التفسيري للقرآن الكريم.
بمعنى : أنّه يمكن أن يكوّن رصد الدلالات المنكشفة عن تفسير المفسّر المنطلق من هذه الإستراتيجية التحليلية ، معجمًا دلاليًا خاصًّا بالقرآن الكريم .
والتدليل لا يأتي على سمت واحد ، بل هو على سمتين :
الأول : تدليل نقلي : ويراد به حشد النقولات والنصوص والروايات التي تتعلق بالآية المفسَّرة ، ويكون على نمطين : تدليل نقلي متصل ، إذا كان الدليل النصي ينتمي إلى المساحة النصية نفسها كالسورة الواحدة مثلا، وتدليل نقلي منفصل ، إذا كان الدليل النصي لا ينتمي إلى المساحة النصية نفسها .
الثاني : تدليل عقلي : ويراد به الحجج العقلية والمنطقية التي يكوّنها المفسّر من ثقافته الكلامية التي هي في الأصل الموجّه لسيره التفسيري.
ولئلا نقحم القدماء بمعطيات المحدثين ؛ سنكتفي في تحليلنا للسير التفسيري عند الإماميين في القابل من المقالات بالإشارة إلى مواطن التدليل ومواطن المقاصد ، من دون الميل إلى تطبيق المنهج الحجاجي اللساني على كلام المفسّرين ؛ لأنه قد يدخلنا بالتقويل والإقحام وهو ليس من دأبنا ، وغاية ما أردنا من هذه التقدمة أن ستراتيجية المفسّر الإمامي تقترب من معطيات المحلّل المحدث في الدرس اللساني.