قبيلة تغلب والديانة النصرانية (القسم2)
أ.م.د. علي ذياب محيي العبادي
وقد وافق ذلك رأي جرجس داود حين قال (( إن النصرانية وجدت سبيلاً إلى عدة قبائل عربية كانت تقيم في نجد والحجاز وقرب الحيرة وبر الشام . نذكر منها على سبيل المثال قبائل بكر وتغلب وكندة ، فمن بكر جساس ، ومن تغلب كان كليب وأخوه المهلهل . وجساس وكليب هما سبب حرب البسوس التي عملت على تفتح عبقرية المهلهل الشعرية ، فكان كما قيل عنه : أول من قصد القصائد وأطالها ، وإذا صحت هذه الرواية فيكون المهلهل الشاعر النصراني من أقدم شعراء العربية الذين طبقت شهرتهم الآفاق )).
أما الكرمــــــــلي فيرى (( أن النصرانية كانت في ربيعة وغسان ، وبعض قضاعة)).
وأرى أن هذه الآراء ربما تصدم بآراء قديمة وهي أقرب إلى عمر هذه القبائل ، من ذلك ما رواه العلامة الاخباري النسابة ابن حبيب ، ت( 245هـ ) عن قبائل الحلة من العرب وذكر من ضمن هذه القبائل ، قبيلة ربيعة بن نزار ..
ويوضح ابن حبيب ما تقوم به هذه القبائل اثناء حجها لبيت الله الحرام وما تقوم به من مناسك ولبس وطواف وما إلى ذلك .
وذكر صاحب العمدة رأياً يقول فيه وهو في معرض حديثه عن الأراقم وهم رهط من قبيلة تغلب :- (( والأراقم : جشم ، ومالك ، وعمرو بن ثعلبة ، ومعاوية ، والحارث ، بنو بكر بن حبيب بن غنم بن تغلب بن وائل ، قال أبو علي : ليس في العرب نصراني غيره )).
وأرى أن هذا الرأي جدير بالاهتمام كونه ينفي كثيراً من الآراء التي جعلت من العرب كلها نصارى أو أغلبها . كما جاء على لسان الدكتور ناصر الدين الأسد سالف الذكر من أن قبائل من العرب بقضها وقضيضها قد تهودت وتنصرت ، ويذكر منها تغلب ، إلا أن ابن رشيق يرى أن فقط الأراقم من العرب كلها قد تنصرت . وهذا الرأي يقف بوجه من يريد أن يلصق النصرانية بتغلب .
وأرى أنه من الجدير بالذكر الوقوف عند أهم الآراء التي وجدها محقق ديوان شعر تغلب ، والتي من شأنها نفي صفة النصرانية عن تغلب ، إذ وضعها ضمن القبائل التي كانت تعبد الأوثان في جاهليتها مستندا في ذلك على اراء الباحثين القدماء والمحدثين ، وعلى أشعار تغلب التي توضح وثنيتهم وتنفي نصرانيتهم .
وأول هذه الآراء هو جعل ابن حبيب ربيعة كلها من الحلة كما اشرنا سابقا . فهذا يضعها مع بقية القبائل التي تعبد الأصنام ، ومن هذه الأصنام التي كانت ربيعة تعبدها ( المُحَرِّق ) الذي كان بسلمان ، لبكر وائل وسائر ربيعة . وكانوا قد جعلوا في كل حي من ربيعة له ولدا،ً
ومن الأصنام الأخرى التي عرفت في تغلب وربيعة عامة ( ذو الكعبات ) . قال ابن اسحاق (( وكان ذو الكعبات لبكر وتغلب ابني وائل ، وإياد بسنداد )).
ومن أصنام بكر وتغلب ( أُوال ) ذكره ياقوت الحموي(636هـ ) في معجمه. ويقول محقق الديوان أيضا أن جواد علي يرى أن ( يغوث ) صنم من جملة الأصنام التي فرقها عمرو بن لحي على العرب ، وكان في مذحج وجرش ، وقال ( جواد علي ) : (( يدل على أن عبادته كانت معروفة بين مذحج وأهل جرش وقريش وهوازن ، وقبائل أخرى مثل تغلب )). ))
ويقول المحقق (( ويغلب على الظن أن عبادة الأوثان هي التي كانت عليها بطون تغلب عامة حتى مجيء الإسلام ، لما في هذا المعتقد من تحلل من الواجبات وعدم التكليف ، مما تميل اليه أنفس الأعراب )).
ويقول (( ويرجح ما ذهبت اليه شعرهم الذي وصل الينا ، فنحن لا نكاد نجد فيه ذكرا أو إشارة إلى معتقد آخر غير الأوثان ، وذكر الله على إطلاقه الذي تكرر في شعرهم في غير ما موضع ففي شعر عمرو بن كلثوم :
ليجز ( الله ) من جشم بن بكر فوارس نجدة خـــــــــــــير الجـزاء
ويقسم بالله فيقول :
تالله إما كنـــــــــــتِ جاهلة من سعــــــــــــينا فسلي بنا كــلـــبا
وفي شعر الأخنس بن شهاب :
فلله قوم مثل قـــومي سوقة إذا اجتمعت عند الملوك العــصائب
ويقسم أفنون برب البيت فيقول :
إني أرى الموت مما قد شجيت به إن دام ما بي ( ورب البيت ) قد أفدا
ومثل هذا يدل على ظاهرة التوحيد عند الجاهليين وإيمانهم بالله الخالق ، وإن كانوا ضلوا السبيل إليه وعبدوا الأوثان )) .
وأخيرا يرى المحقق (( أن ما قيل عن نصرانية تغلب ، وتعميم ذلك عليها ؛ ففيه ما فيه من مبالغة ، أو عدم دقة ، أو أغراض . فالنصرانية دين وافد على الجزيرة العربية ، واعتنقه بعض العرب باتصال غير مباشر عن طريق التجارة أو التنقل ، ولذلك لا نتوقع أن يكون انتشار النصرانية بين عرب الجاهلية انتشاراً سريعاً وكبيراً ، ولا سيما أنها لم يُقيَّض لها ملك من العرب يتحمس لهذا الدين الجديد ، وينشره بسلطانه )) .
وأرى في نهاية هذا العرض ، أن النصرانية كانت موجودة في بعض بطون تغلب ، كما أشارت المصادر كرهط جابر بن حنى أو كرهط الأخطل إلا أنها لم تكن واضحة في شعرهم بخاصة عند الشعراء الأوائل كمهلهل وعمرو بن كلثوم . وهذا الرأي ربما يتوافق مع رأي محقق ديوان تغلب حين قال (( ويبدو لي أن نصرانية تغلب من هذا القبيل ، وأنها إنما دخلت إليها النصرانية بأخرة ، قبيل الإسلام ، وذلك عندما استقر بنو تغلب في الجزيرة الفراتية على حدود الروم ، وهي المرحلة الثالثة من تنقلهم ، إذ انتقلوا من جنوب الجزيرة العربية ، إلى نجد )). وهو بذلك معتمدا على رأي ابن سعد الذي قال (( وكانت النصرانية غالبة على تغلب لمحاورة النصارى وهم رهط الأخطل النصراني )) .
ويرى المحقق أن البيت الذي قاله جابر بن حنى
وقد زعمت بهراء أن رماحنا رماح نصارى لا تخوض إلى الدم
(( دليل على أن الشاعر ليس نصرانياً ، ولا قومه ، فهو يتبرأ مما اتهم به ، وينكر ما وصف به قومه ، وهذا هو الوجه الأقوى في تفسير البيت وهو ما ذهب إليه محققا المفضليات )).
وله رأي آخر في ذلك حين قال (( ويبدو أن بني تغلب أفادوا من تسامح الاسلام مع أهل الكتاب وإبقائهم على دينهم ومعتقداتهم ، وأخذ الجزية منهم بدل الحرب ، ووجدوا في ذلك وسيلة للهرب من الاسلام وأوامره ونواهيه ، وللبقاء على ما هم عليه من عادات قبلية وجاهلية ، ولا سيما شرب الخمرة التي حرمها الاسلام . فتمسح بعض من لم يسلم منهم بالنصرانية )).