آراء الدارسين المحدثين في الشاعر دعبل بن علي الخزاعي (246 هـ )
أ.م.د. علي ذياب محيي العبادي
لقد تناول الدارسون المحدثون شاعر آل البيت دعبل بن علي الخزاعي (148 – 246هـ ) وشعره بشيء غير قليل من البحث والدراسة والنقد والتنقيب وانقسموا في ذلك على قسمين لذلك ارتأينا أن نقف عند تلك الآراء وتحليلها وهي على النحو الآتي :
أ : الدارسون المحدثون الذين ردّوا على الدارسين القدماء ؟ أو أيدوهم ؟
ب : الدارسون المحدثون الذين أبدوا أراءً جديدة في دعبل الخزاعي وشعره أو ردوا على معاصريهم ؟
أ : يُعدُّ بطرس البستاني من أشهر الدارسين الذين ساروا على خطى القدماء
في ذم الشاعر والحط من منزلتهِ الأخلاقية ؛ إذ يقول : (( فهذه الروايات على
علاتّها تشهد لدعبل بما كان له من مكانة في عصره فخبث لسانه وعصبيته
للقحطانية وتشيعه لأهل البيت جعل منه هجاءً مسفّها وشاعراً قومياً ومحامياً
حزبياً ، فمنزلته إذا قائمة على شعره الهجائي ولا سيما السياسي منه وهو
شبيه بشارٍ بإقذاعه وشتمه وسلطانه على الأعراض ولكنه يفوقه خطراً
لنسبتهِ في خزا عه وتشيعه للعلويين )) ويقول في مكان آخر (( وعلى
الجملة فليس في أخلاق دعبل ما يستحق الحمد والثناء ، فهو عصارة اللؤم المصفى
وقد اغترف الأستاذ حنا فاخوري من البئر ذاتها التي استقى منها البستاني ،فوافق بذلك القدماء بجميع ما ذكروه في حق دعبل من نقدٍ وأنتقاد .
ووجد شوقي ضيف في رسالة الغفران رأياً يناصره ويعاضده فقال ((ولعلّ أن أبا العلاء محق في تشككهِ لان مثل دعبل المنطوي على كره الناس لا يمكن أن يخلص لآل البيت إلا أن يكون وراء ذلك باعث يدفعه لان يقول مالا يعتقده ، وكأن أموال ( قم ) هي التي دفعته لما كان ينظم من أشعار شيعية كما دفعته إلى هجاء الرشيد وغيره من الخلفاء ، ويقال أن المأمون كان إذا سمع هجاءه فيه أو في بعض وزرائه ضحك ، وكان ذلك يدفعه إلى التمادي حتى ليقول له مهدداً وكأنه يهدده بلسان أهل قم :
إني من القوم الذين سيوفهم قتلت أخاك وشرفتك بمقعدِ.
واتفق كذلك شوقي ضيف مع المعري في إنكار الصدق في تشيِّعه؛ إذ يقول : ((ولو أنه كان مخلصاً في تشيعه حقاً لأعلى صلة التشيع بينه وبين الكميت على العصبية القبلية ولا سيما ان الكميت قد مات منذ زمن بعيد )) ..
و ردَّ خليل رشيد على المعري فقال : (( قد أكون مغالياً ومسرفاً في الغلو الى حدِّ بعيد . وجريئاً الى أبعد حدود الجرأة بحكمي على شيخ نقاد الأدب بالشذوذ ، وما نسبه شيخ المعرة لدعبل لا شك وان الرجل مدفوع في ما كتب بشذوذ العبقرية وجنون العظمة الأدبية . وإلا لما حكم على دعبل بهذا الحكم القاسي المؤلم . دعبل تشيع ليكسب ؟ في وقت كان التشيع جريمة . .
وغير خافٍ على المتتبع للسيَّرِ، والباحث في الموضوع ، ما لذلك الدور المظلم العصيب الذي عاش فيه شاعرنا دعبل من عنت وارهاب ، وغمط حقوق وإجحاق وظلم وتقتيل وتشريد ؛ إذ كانت السلطة التنفذية آنذاك تطارد الشيعة ، فيؤخذ الرجل بالشك والشبهة وظنه التشيع واتهامه بالموالاة لعلي، فيهدم داره وينهب ويقتل ويصلب وقد يعذب أحياناً قبل تنفيذ حكم الموت فيه ، تقطع يديه ورجليه ولسانه وسمل عينيه والى غير ذلك من أنواع التعذيب . وليست جريمة الكفر والزندقة والإلحاد والخروج عن الدين آنذاك بنظر السلطة الحاكمة كجريمة التشيع لعلي وآل علي حتى بلغت الحال ان قيل :- ان الرجل ليقال له كافر أو زنديق أحب اليه من أن يقال له شيعة علي ؛ إذ بلغ الاضطهاد في ذلك الدور المظلم العصيب بالخواص والخلص وحتى العامة من الشيعة على أشده . ولو أراد دعبل التكسب كما زعم شيخ المعرة لما انضم إلى جماعة مطاردة مملقة لا تجد البلغة من العيش وغير آمنه ولأنضم إلى ركب الخلافة وشايع السلطان ولم يكن حظه بالتكسب لو أراد بأقل من حظ معاصريه أبي تمام والبحتري وأبي نواس وغيرهم من شعراء العصر العباسي )) .
أما جورجي زيدان الذي ذكر دعبلاً على نحو مختصر مع بقية شعراء العصر العباسي الأول فنلمس من قولهِ : (( فأ نت ترى شاعرية هذا الرجل ، لكن ذكره خمل بسبب هجوه الخلفاء ، والناس على دين ملوكهم )) ، تعريضه بالدارسين الذين درسوا حياة دعبل وشعره، فكانوا سببا في تشويه صورته إرضاءً للسلاطين بحسب رأي زيدان .
أما جرجس كنعان فقد دافع عن دعبل وناقش القدماء في رواياتهم وجادلهم في ما نقلوه لنا أنفسهم من روايات وأخبار فيقول (( نراجع هذه الأقوال فنرى فيها من المتناقضات ما نُدهش له ونتعقبها فنذوب أمام البوتقة فإذا هي خبث الحديد فلنبحثها على ضوء الحقائق :(كان دعبل اطروشاً في قفاه سلعة ) ،أما انه لم يكن أطروشاً فقد دلَّ عليه أنه كان يحب الغناء وانه كان له غلامان قد سموهما وهما ثقف وثقيف وأي لذه للأطروش بالغناء ؟ وجميع من قابلهم لم يظهروا أنه كان أطروشاً إلا اذا كان أمسى اطروشاً في آخر ايامهِ حيث لم يبق له حظ في الغناء . أما سلعته فقد روي ان دعبلاً نظر في المرآة فضحك فقيل له مم تضحك ؟ فقال رأيت السلعة وهي في عنفقتي فذكرت قول الفاجر أبي سعد المخزومي:
وسفلةَ سوءَ به سلعة ظلمت أباه فلم ينتصر “”
فالمفهوم أن السلعة كانت في عنفقتهِ فكيف صارت في قفاه ؟ وهل يستطيع ان يراها بالمرآة اذا لم تكن في وجهه ، ( وكان يشرب الخمر ويسمع الغناء ) أما انه كان يشرب ويسمع الغناء فقد كان كثير من شبان الكوفة يشربون ويسمعون الغناء ، وقد روى الرواة له ابياتاً قالها لابي نهشل بن حميد الطوسي وقد نسك بعد فتكه ولزم الحرم :
إنما العيش في منادمة الاخـ وا ن لا في الجلوس عنـد الكعـابِ
وبصرف كأنه السن البــر ق اذا استعرضت رقيـق السحابِ
إن تكونوا تركتم لذة العيــ ش حذار العقاب يـوم العقـابِ
فدعوني وما ألذَّ من الهوى وادفعوا بي في صدر يوم الحسابِ””
فإذا كان العيش عند دعبل هذا الذي وصف فيالخيبة سعيه ويالطول شقائه وتعسه . ألما يلذ ويبقى كان هذا الجهاد الطويل ؟ وهل يحتاج هذا العيش الهين الى ذلك الجلاد والصراع ؟ )) .
وينكر الدجيلي جامع ديوانه على جميع الرواة تناقلهم لعاهةِ السلعة ، ويسخر من آلية النقل وعدم الدقة في نقلها، فيقول : (( ولا ندري كيف نوفق بين هاتين السلعتين أهما سلعتان أم سلعة واحدة ؟ أم انها سلعة الرواة أنتقلت من الوجه الى القفا )) .
ثم يضيف الدجيلي (( أنه كان أطروشاً كما مرَّ ، ولكن في رواية انه كان يحب الغناء وله غلامان ثقف وثقيف كانا يغنيانهِ )) .
ويضع عبد الكريم الاشتر تحليلاً يَدعَم فيه رأي الدجيلي ؛ إذ يقول (( إن ما شاع في بعض مصادر أهل السنة من صفات الشاعر والذي نقل خبر هذه الصفات أبو بكر احمد بن القاسم – أخو أبو الليث الفرائضي – وهو خبر واحد ، وعنه شاع في بعض مصادر أهل السنة حتى اضيفت إليه – عند الذهبي في القرن الثامن – صفة اخرى هي الحدب . والثابت ان الشاعر كان يهوى أن يستمع الى الغناء …. فكيف يصح ان نصدق أنه كان أطروشاً )) .
يستمر الاشتر على تحليله فيقول (( واغلب الظن أن الخبر : ان صح يعني أن احمد ابن القاسم عرف الشاعر وقد تقدمت به السن كثيراً ، فثقل سمعه فرآه يتسقط الكلام تسقطاً ولعل السلعة ان تكون كبيرة تصل الى القفا ويراها احمد بن القاسم وهو من وراء الشاعر )) . ثم يضيف (( أما صفة الحدب التي اضيفت عند الذهبي فلا نعرف مصدرا آخر لها ولا يبعد ان يكون الذهبي أو أحدَُ ممن سبقه فسرَّ السلعة هذا التفسير ، ولا يستبعد أن يكون الشاعر انحنى ظهره في مثل هذه السن ، فليست التسعون سنة وما فوقها بالحمل الخفيف . ويلزم ان يكون الشاعر قويّ البنية حتى يُعمِّر ما يقرب من القرن الكامل ويحتمل ما أحتمل فيه من مشاق السفر والتشرد والمغالبة)) .