قصيدة الأعشى ودع هريرة بين التميز والتناقض
أ.د.خميس أحمد حمادي الشمَّري
 
 في البدء لا بد من القول إن الأعشى الكبير( ميمون بن قيس) أشهر من أن نعرف به فهو أشهر من نار على علم، وما يعنيني هنا هو الوقوف عند ديوانه لعل في ذلك فائدة ما،فقد  كنا إلى زمن قريب نعد النسخة التي حققها الدكتور محمد محمد حسين هي الأفضل من بين نسخ ديوانه، وكلنا-بلا ريب-  قد أفدنا من هذه النسخة في مراحل دراستنا المختلفة  لكن ظهور نسخة أخرى من الديوان بتحقيق الدكتور محمود إبراهيم الرضواني في قطر سنة 2010 ، والتي تتكون من 789 صفحة  قد غيرت شيئا من تلك الثوابت التي نعرفها.
إن هذه الطبعة تنماز بالدقة وتصحيح الأخطاء التي وقع فيها سلفه الدكتور محمد محمد حسين.
لقد عانى الأعشى مثل غيره من شعراء العربية من كثرة الوضع والكذب عليه وهذا ما نجده في كثير من المصادر المعتبرة للأسف وليس المقام مناسبا للتعرض لها بالشرح والتفصيل.
إن هذه القصيدة التي قال عنها أبو عبيدة عنها” لم تقل قصيدة في الجاهلية على رويها” تستحق التوقف عند مضامينها ومواضع الإبداع والإخفاق فيها، ومن وجهة نظري فإن القصيدة فيها أكثر من مستوى على صعيد الألفاظ والمعاني، فضلا عن تباين أسلوبها بين مقطع وآخر، ومطلعها هو الأكثر تميزا عن بقية المعلقات من خلال الجمل القصيرة التي يصح الابتداء بها كما يقول أهل النحو ونمثل لذلك بقوله:
فالمطلع  عبارة عن جمل قصيرة يمكن فصلها عن بعض من غير أن يختل المعنى كما هو واضح في هذه الجمل :( ودع هريرة، إن الركب مرتحل،وهل تطيق وداعا أيها الرجل) .
ومثله يقال عن البيت الثاني:
فهو لا يختلف كثيرا عن سابقه في اعتماده على الجمل القصيرة ، وهذا التقسيم المقطعي- إذا جاز التعبير- مختلف عن بقية المعلقات بمختلف أعدادها.
إن قصيدة الأعشى يمكن تقسيمها على ثلاثة  أقسام بحسب طريقة الأداء الشعري واللغة التي نسجت منها أبيات القصيدة، فالقسم الأول :وهو الأفضل  يمتد من البيت 1- 23، أما  القسم الثاني -وفيه وصف للسيل والمطر والصحبة- فيمتد من البيت  : 24-46، وفي هذا المقطع تميل لغته إلى الصعوبة، فضلا عن استخدام  الألفاظ الغريبة وحتى الوحشية في بعض الأحيان،ويبدأ هذا القسم من قوله:
 
أما القسم الثالث من القصيدة فيبدأ من البيت 47  إلى نهاية القصيدة بالبيت 69،ويبدأ من قوله:
وفي هذا المقطع ( وهو غرض القصيدة) تميل لغته إلى التهديد والوعيد وتختفي إمكانيته اللغوية، فهذا المقطع يتشابه مع معلقة عمرو بن كلثوم،  فهما عبارة عن ضجيج صوتي تختفي معه الصياغة الشعرية المتقنة، وفي هذا الجزء أو هذه اللوحة  تختلف لغة الأعشى عن مقطع هريرة كليا .
من وجهة نظري  فإن الصفات الواردة في مقطع هريرة ربما تكون لامرأة رآها في رحلاته الكثيرة، ومن ثم أسقطها على هريرة، فهو في الأبيات السابقة يصف امرأة رشيقة متأنقة في مشيتها لا تكاد تلمس الأرض فهي- على وفق ذلك- أقرب ما تكون لراقصات الباليه في العصر الحديث هذا أولاً، والأمر الآخر هو إن نص الأعشى يمتاز بالحركية،فضلا عن الحوار، فقوله في البيت الأول-على سبيل المثال- ودع هريرة …يحتمل أن يكون الشاعر يخاطب شخصا آخر، أو أنه جرد من نفسه شخصية محاورة  كما هو الحال في شعر الكرم وشعر القتال مثل شعر عروة وحاتم الطائي ومالك بن الريب.
يبدأ النص بالهبوط  فنيا ولغويا من قوله ::صدت هريرة عنا…..بحيث اقتربت القصيدة  من الإنشاء كثيرا، ولو كانت هذه الأبيات في نص آخر لربما كانت مميزة  لكن مقارنتها بالأبيات الأولى يظهرها ضعيفة على كل الأصعدة.
إن هذا النص يضج بالتميز والتناقض في آن واحد  فهو لا يسير على نمط لغوي أو  أسلوبي واحد كما هو الحال مع بقية المعلقات،  فضلا عن ذلك فإننا نجد بعض الأبيات يفترض أن يتغير مكانها تقديما وتأخيرا، فضلا عن  الأبيات الحسية 12و 13 التي  وضعت في غير موضعها، ومن وجهة نظري  فإن الأولى أن يكون ترتب الأبيات كما يأتي: 8 ثم ،،9،ثم 14،  ثم 13 ثم 12،  بحيث تقرأ : إذا تعالج: ملء الشعار، هركولة، كأن فاها، نعم الضجيع؛ لتكون مرتبة على وفق منطق مقبول، ويكون البيتان 10 و11 …في مكان آخر بعيد عن هذه الأبيات الحسية وهما( صدت هريرة، أأن رأت رجلا)، الأمر الآخر في موضوع  تناقض الترتيب  يمكن أن نتلمس مظاهره في البيت ال 15 وما يليه ، الذي جعله الشاعر( أو غيره وهو الأدق من وجهة نظري)  بعد الأبيات الحسية السابقة،  وهو جزء من الأبيات الجميلة التي جاءت في مطلع القصيدة لغة وأسلوبا:
فبعد قوله في البيت ال14 ( هركولة) وهي الكبيرة الوركين، عاد ليقول:( إذا تقوم يضوع ….)، فيفترض -على وفق ذلك- أن يكون قوله في الأبيات 15/ 16/ 17/ 18/  ( إذا تقوم يضوع المسك …بعد قوله في البيت السادس:
 
ثم يقول :
:
إلى آخر الأبيات…. ليكتمل المعنى، وتقرأ القصيدة على وفق تسلسل منطقي لم يغفله الشاعر في وقتها بكل تأكيد.
وعلى وفق ذلك فإن معلقة الأعشى هي الأكثر ارتباكا من بين المعلقات السبع أو التسع أو العشر.
إن ما قلته سابقا عن قصيدة ( ودع هريرة) لم ولن يقلل من تميزها، فضلا عن ذلك فإن ترتيبها على وفق منهج معين ليس بدعا بدليل إن الدكتور فضل بن عمار العماري، قد نشر معلقة عمرو بن كلثوم تحت  عنوان(الرواية الصحيحة المفترضة لمعلقة عمرو بن كلثوم) في مجلة فصول في العام 1992 …
وختاما أقول لا غرابة ولا إشكال بإعادة قراءة  الشعر العربي  القديم على وفق متبنيات جديدة، فهو وليد ذاكرة شفوية عبرت به عشرات السنين وبكل تأكيد أصابه شيء ما كدر صفوه ولا بد من رفع تلك الكدرة عنه ؛ ليعود نقيا صافيا كما كان. 















.



شارك هذا الموضوع: