بخلاء البغدادي(463هــ) ــ قراءة تحليلية
أ.د حازم علاوي عبيد الغانمي
حسب القراءة والتدقيق في هذا الكتاب نجد أنَّ الخطيب البغدادي لم يتأثر بمنهجية كتاب البخلاء للجاحظ ، فلم نجده ساخراً ولا واصفاً وإنما راوياً للأشعار الخاصة بالبخل ، ولم يسرد القصص ، كذلك فإنَّ طريقة الرواية اختلفت هي الأخرى ، فقد نقل الخطيب طريقته في رواية الحديث إلى هذا الكتاب فقد حرص على (( إيراد السند لكل خبر أورده ، وكذلك مارس الصنعة الحديثية فيه ))(1) بالإضافة إلى ذلك لم يخرج الكتاب عن كونه مجموعة أخبار منقولة بالسند, إذ وردت الأخبار الأدبية والقصائد الشعرية بصيغة الأخبار وهذا طابع المحدّثين(2) ، وتضمّن الكتاب ستة أجزاء ، وقد حملت كل هذه الأجزاء موضوعاً من موضوعات البخل ، بدأ كل جزء بأسماء رواة ثلاثة هم ابن خيرون وأبو حفص وابن الصيقل الحرّاني(3) وينهي الجزء الأول بالحمد والتسليم مع الحديث عن هؤلاء الرواة والسماع وزمان الرواية ومكانها ، أما باقي الأجزاء فقد انتهت بالحمد والتسليم فقط(4) . أضف إلى ذلك فقد تضمن الجزء الأول أحد عشر عنواناً لا تلتزم بصيغة منهجية معينة وهي : ذكر الروايات عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في البخل ووصفه وعيبه وذمه والتحذير منه والاستعاذة بالله منه ، استعاذة النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بالله من البخل ، نفي النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) البخل عن نفسه ، وصف رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) السخاء والبخل ، ضرب النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) مَثَلَ البخيل، الرواية عن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أنَّ طعام البخيل داءٌ ، قول النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أدوى الداء البخل ، قول النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ( أنّ الله يبغض البخيل ) ، ما روي في نفي الإيمان عن البخل ، الرواية عن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أنَّ البخيل بعيد من الله ، الرواية عن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أنَّ البخيل لا يدخل الجنة(5) . في حين ضمَّ الجزء الثاني عنوانان هما ( البخل والشح ، وباب ذكر المأثور عن المتقدمين في ذم البخل والباخلين )(6)، والتزم المؤلف في الأجزاء الباقية بوضع العنوانات في فصول(7) .
أما مصادر الكتاب فقد سردها المحقق ، وهي قائمة من كبار رجال الأدب واللغة ولكن الخطيب لم يشر إلى مؤلفاتهم التي نقل عنها ولكنهم ذُكِروا في أسانيدهِ(8) .
لقد روى الخطيب في كتاب البخلاء ( 564 بيت ) لشعراءٍ شتى من عصورٍ شتى ، ولكنه أغفل شعراء كبار في نفس الوقت منهم ( المتنبي ، أبو تمام ، مسلم بن الوليد ، الشريف الرضي ، أبو العلاء المعري ) بالرغم من أنّ هؤلاء الشعراء حاولوا في بعض أشعارهم تشخيص أمراض المجتمع ومعالجتها ، فضلا عن أنّ بعض النصوص تروى أنَّها لبعضهم ولآخر ولم يذكر صاحبها .
لقد روى الخطيب للشعراء المشهورين( أشعاراً موضوعها البخل ) من مختلف العصور ( الجاهلي والإسلامي والأموي والعباسي والمخضرمين ) منهم لبيد ولقيط والنابغة وحسان بن ثابت وجرير وحماد عجرد وأبو العتاهية وابن الرومي وبشار والبحتري وأبو نواس وجحظة البرمكي والحريري وابن المعتز ، وروى لأهل اللغة منهم أبو علي الفارسي وابن دريد والواسطي ـ ولأهل البلاغة منهم أبو هلال العسكري والمبرد ، وكذلك لأهل الأندلس ومنهم ابن هانئ الأندلسي ، والأهم من ذلك ومما زاد هذا الكتاب أهميةً هو تضمنه كثير من أشعار الشعراء المشهورين والتي لم تضمها دواوينهم ، فيعد مصدراً جديداً من مصادر شعر هؤلاء الشعراء ، ومن ذلك قول حسان بن ثابت(9) :
وقال رسولُ الله والحـــــــــــــــــــــــــــــــــقُ لازمٌ لمن كان منّا : من تسمون سيدا ؟
فقلنا له : جدُ بنُ قيسٍ ـــ على الذي نُبَخِّلُهُ فينا ـــ وقد نال ســـــــــــــــــــــــــــــؤددا
فقال : وأي الداء أدوى من الذي رميتم به جداً وأغلى بها يدا ؟
فسوّدَ بشر بن البراءِ بجودهِ وحُقَّ لبشر بن البرا أن يسودا
فليسَ بخاطٍ خطوةً لِدَنِيَّةٍ ولا باسطٍ يوماً إلى غيرهِ يدا
إذا جاءهُ السؤّالُ أنهبَ مالهُ وقالَ : خذوهُ ، إنه عائدٌ غدا
فلو كنت يا جدُّ بن قيسٍ على التي على مثلها بشرٌ لكنت المسوّدا
وكذلك قول أبي العتاهية(10) :
من عفَّ خفَّ على الصديق لقاؤه وأخو الحوائجِ وجهُهُ مملولُ
وأخوكَ منْ وفَّرْتَ ما في كيسهِ فإذا عبثْتَ بهِ فأنتَ ثقيلُ
يلقاكَ بالتعظيمِ ما لم ترْزَهُ فإذا رزأتَ أخاً فأنت ذليلُ
والموتُ أروحُ من سؤالكَ باخلاً فَتَوَقَّ لا يمنن عليك بخيلُ
هبةُ البخيلِ شبيهةٌ بطباعهِ فهو القليل وما ينيلُ قليلُ
والعزُّ في حسم المطامعِ كلها فإن استطعتَ فمت وأنت نبيلُ
ونجد أنَّ الخطيب لا يقيد روايته بأيديولوجية معينة بل نجده يروي للشعراء الشيعة ومنهم ( دعبل والسيد الحميري )(11) ، ولم يتقيد بأصحاب الطبع أو الصنعة فروى لــ ( بشار والبحتري ) ، وكذلك روى للكتّاب والشعراء ، فأدبيته موظفة في (( إنتاج معرفة إبداعية تفكك الأشياء ثم تعيد تشكيلها وتستحضر التراث ، لا لتستوحي منه فقط ، بل لتؤوله وتخلق من أصواته المتعددة فاعلية ديناميكية تسهم حقاً في بلوغ أقصى درجات الرؤيا الشعرية ))(12).
وللخطيب الفضل في هذا الكتاب في أنَّه يروي للمغمورين والمقلين أمثال ( أبو القاسم الأنباري و عباس المشوّق وأبو عبد الله الصوفي وأبو وهب وأبو عكرمة وابن مناذر ومخلد الموصلي وأبو العالية وأبو هفّان ومدرك الشيباني وابن العلاق ومدنية الشاعر ومحمود الوراق وأبو عثمان الناجم والسمسماني اللغوي ) ومثال ذلك قول السمسماني اللغوي(13) :
خنازيرُ ناموا عن المكرماتِ فأيقضـــــــهم قدرٌ لم ينـــــــــمْ
فيا قُبْحَهُمْ في الذي خولوا ويا حُسْنَهُمْ في زوالِ النعمِ
كما أنَّ للخطيب مرويات نثرية ، وهي أخبار وقصص صيغت بطريقة نثرية أدبية كقوله (( خير الناس من أُلفيَ سخياً ، وعند الغضبِ وقوراً ، وفي القولِ متأنياً ، وفي الرفعةِ متواضعاً ، وعلى كلِّ ذي رَحِمٍ مشفقاً … ))(14)وفي بعض الأحيان يخلط النثر مع الشعر(15) .
ومن ضمن مرويات الخطيب في هذا الكتاب ، نجد مرويات لأمثال مشهورة مع قصصها ، هذه الأمثال تخص البخل أيضاً ومنها( 16) ( نارُ الحُباحب ) ، إذ يروي الخطيب أنَّ الحُباحب رجلٌ من أحياء العرب ، وكان رجلاً بخيلاً ، فكان لا يوقد ناره بليلٍ كراهيةَ أن يراها راءٍ فينتفع بضوئها ، فإذا احتاج إلى إيقادها ، فأوقدها ، ثم بُرَ بمستضيءٍ بها أطفأها ، فضربت العرب بناره المثل ، وذكروها عند كل نارٍ لا ينتفع بها(17) ، وفي مجمع الأمثال ( أخلَفُ من نار الحُباحب ) وفيه قصص متعددة بالإضافة إلى هذه القصة(18) .
وبهذا نجد أنَّ الرواية في هذا الكتاب اشتملت على الشعر والنثر والمثل ، وقد اعتمد الخطيب في اختياراتهِ الأدبية على ذوقهِ الفني وجودة النصوص وما تحمله من معنى البخل ومدى تأثيرها بالمتلقي ، فلم تتقيد بزمانٍ ولا مكان ولا فن محدد ولا مشهورٍ من الشعراء ولا مغمور ولا مقلٍ ولا مكثر ، حتى جاءت ملائمة لأبواب الكتاب ومنهجيته .