كتاب التطفيل للبغدادي(463هــ) ــ قراءة تحليلية
أ.د حازم علاوي عبيد الغانمي
لم يلتزم هذا الكتاب بمنهجية ثابتة ، ولم يبوّب بأجزاءٍ ستة على حسب التجزئة القديمة المتعارفة بين رجال الحديث والتي اتبعها في بخلائه(1) ، إذ توزعت صفحاته بين ( معنى وذكر وباب وأخبار ووصايا وأشعار ) ، وهي كالآتي : معنى التطفيل في اللغة ، وأول من نسب إليه ــ ذكر ما كان يسمى به الطفيلي في الجاهلية ــ باب فيمن دعي إلى طعام فأراد أن يستصحب معه غيره ، وأنَّ السنة استئذان الداعي له في ذلك ــ ذكر من طفل على عهد رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من الصحابة رضي الله عنهم ــ باب في التغليظ على من أتى طعاماً لم يدعَ إليه ــ باب فيمن ذم التطفيل وأصحابه ، وهجا به غيره وعابه ــ باب فيمن حمد التطفيل ، واحتج لأهله وذكرهم بالجميل ــ باب في ذكر من طفل من الأكابر والأشراف وأهل العلم والأدب ــ من عرّض بالتطفيل ولم يصرح ــ من أحب تطفيل غيره عليه ، فسهّل له السبيل إليه ــ أخبار من صرفَ إلى التطفيل همته ، وجعل ذلك صناعته وحرفته ــ أخبار من مُنِعَ عن الدخول ، فاحتال وتسبب إلى الوصول ــ ذكر بعض المحفوظ عن الطفيليين في محاضراتهم ، وما أجابوا به وأوردوه في مناظراتهم ــ وصايا الطفيليين ــ من أشعار الطفيليين ــ من أخبار بنان الطفيلي ــ ذكر ما أسند إلى بنان من الأخبار ــ خبر بنان في البصرة ــ ما حفظ عن بنان في رسوم التطفيل وحدوده وأحكامه ــ قوله في تقديم الوقت لحضور الدعوة ــ قوله في تخيره المواضع ــ قوله في صنوف الأطعمة وأنواع الأكل ــ مجموع أخبار بنان ــ نسخة عهد في التطفيل (2) .
فقد بدأ الخطيب كتابه بمقدمة ذكر فيها مناسبة جمعه لهذه الأخبار ، ثم عقد عنوانات للحكايات التي ساقها عن الطفيليين ، وأورد بعض الأحاديث النبوية المناسبة تحت بعض العنوانات ، ثم أورد الحكايات والأشعار والأخبار بأسانيدها ، كما انتقد بعض الروايات مبيناً زيفها ، ووجّه البعض الآخر فقهياً ، وأخبار الكتاب تتراوح بين أخبار الظراف والمخادعين والمحتالين ، وكلها من أخبار الطفيليين(3) ، حيث يبدأ كل عنوان بسرد الأخبار المتعلقة بالموضوع والتي لا تخلو من الطرفة وبعدها ينتقل إلى إنشاد الشعر، وأسلوبه كالعادة لا يتعدَّ أسلوب أهل الحديث ، ولكن عنواناته تنوعت وتعددت وقد أغناها بالشواهد الشعرية والنثرية والتي تدل على تطور ثقافي واجتماعي وسياسي حصل في هذا العصر.
أضف إلى ذلك فإنَّ الخطيب ذكر شخصية طفيلية اسمها( بنان )(4) وروى أخبارها في التطفيل في نهاية الكتاب ، وهذا يختلف عن كتاب البخلاء ، إذ لم يخصص هناك شخصية محددة في البخل ، فضلاً عن ذكره شخصيات أخرى في هذا المجال مثل ابن دراج الطفيلي وابن داب الطفيلي وطفيل العرائس وغيرهم .
وللكتاب مصادر متعددة حسب ما يذكر الخطيب في أسانيده ، منها كتب أدب المسامرات مثل العقد الفريد لابن عبد ربه ، ونهاية الأرب في فنون الأدب للنويري ، وثمرات الأوراق لابن حجة الحموي ، وزهر الآداب للحصري القيرواني ، فضلاً عما روي عن الجاحظ ، وكتاب أخبار الأذكياء لابن الجوزي(5) .
يبدأ الخطيب كعادته وكما في كتاب البخلاء بذكر الرواة وهم أبو المعالي الحسين بن حمزة بن الحسين الغسّاني وأبو طاهر بن بركات بن إبراهيم بن طاهر الخشوعي وأبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن عثمان بن عساكر(6).
روى الخطيب في هذا الكتاب ( 254 بيت ) بالإضافة إلى ( أخبار تتعلق بالطفيليين ) ضمّنها الخطيب عنواناتهِ المتعددة ، وقطع نثرية كثيرة متعلقة بالموضوع أيضاً .
تميّز شعراء هذا الكتاب بأنَّهم في أغلبهم غير معروفين ومن المغمورين والمقلين ، ولم ينسب الخطيب في بعض الأحيان الشعر لأحد فيقول ( يذكر بعض الشعراء لبعضهم ، ولشاعر ، ولآخر ، ولبعض الكرام )(7) ومن ذلك قول الشاعر(8):
كلَّ يومٍ أدورُ في عرصةِ البا بِ أشمُّ القُتارَ شمَّ الذبابِ
فإذا ما رأيتُ آثارَ عرْسٍ أو ختانٍ أو دعوةٍ لِصحابِ
لم أعرجْ دون التَقَحُّمِ فيها غيرَ مستأذنٍ ولا هَيّابِ
ولم يتقيد بعصر معين ولا مذهب معين ولا بشاعرٍ مشهور أو مغمور ، ولكنه روى حسب ما يتطلبه العنوان الذي وضعه ، ومن المشهورين الذين روى لهم في هذا الكتاب ( امرؤ القيس ، ابن الرومي ، أبو نواس ، الموصلي ، جحظة البرمكي ) وكما أسلفنا فإنَّ هذه النسبة تمثل النزر اليسير من الشعراء مقارنةً مع كتاب البخلاء(9) .
ومن الشعراء المغمورين الذين ذُكروا في هذا الكتاب ( محمد بن عمران القاضي ، الكرخي ، الخالع ، الزمكدم ، الوراق ، الهروي ، ابن مسرة ، أبو هفان ، الحمدوني ، دكين الراجز ، ابن داب الطفيلي ، التنوخي الطفيلي ، أحمد بن يحيى الطفيلي ، أبو عبد الله البناني ، المسلمي ) ومثال ذلك قول الزمكدم يهجو ابن حجر الإنطاكي ويرميه بالتطفيل ويضمّن المثل في البيت الأول (10) :
مُطَفَّلُ أطفلُ من ذُبابِ على طعامٍ وعلى شرابِ
لُقِّبَ طَنْزاً أشرف الألقابِ أدْوَرَ بالموصلِ من دولابِ
يمرُّ مرَّ الريحِ والسحابِ ينزلُ تطفيلاً بابِ بابِ
نزولَ شيبٍ لاحَ في شبابِ يدخلُ بالحيلةِ في الأنقابِ
وكذلك قول المسلمي(11) :
ولما رأيتُ الناسَ ضَنُّوا بمالهم فلمْ يكُ فيهم من يهشُّ إلى الفضلِ
ولمْ أرَ فيهم داعياً لابنِ فاقةٍ يحنُّ إلى شربٍ ويصبو إلى أكلِ
بالإضافة إلى ما رواه الخطيب من أشعار الطفيليين على طول الكتاب ، إلا أنّه خصص عنواناً أسماه أشعار الطفيليين ذكر فيه بعض الأشعار(12) ، وخصص جزءاً لا يستهان به لـ ( بنان الطفيلي ) وأخباره في البصرة وأشعاره ، لكن ذكره لأشعار ( بنان ) لم تقتصر على هذا الجزء بل انتشرت في الكتاب ، من ذلك قوله(13) :
نحنُ قومٌ نُحسِنُ الإقــ دامَ في وقتِ الزحامِ
هكذا فليكن التط فيلُ تطفيلَ الكرامِ
ومن مرويات الخطيب أخبار مختلفة تتعلق بالعنوانات المثبتة في الكتاب ، لا تخلو من الفكاهة والمرح ، وهي كلام عادي يمثل خبر يعبر عن أيام العرب وأحداثهم ومواقفهم في التطفيل ، ولا تحمل المميزات الفنية التي يتميز بها النثر الفني(14) .
وللنثر الفني الذي عرفه وتعارف عليه العرب نصيبٌ من هذا الكتاب ، إذ روى الكاتب مرويات نثرية عن التطفيل عبرت عن معاني وأخبار مختلفة ، أراد من خلالها الخطيب تنويع مروياته بفنون مختلفة ومن ذلك ما نصه (( افتحوا أفواهكم ، وأقيموا أعناقكم ، وأجيدوا اللف ، وأشرعوا الأكف ، ولا تمضغوا مضغَ المتعللين ، الشباع المتخمين ، واذكروا سوء المنقلب ، وخيبة المضطرب ))(15) ، بقي أن نذكر أنَّ للخطيب في بعض الأحيان إشارات لغوية بلاغية على لسان الطفيلين وهذا يمثل جهداً لغوياً بلاغياً بالإضافة إلى الجهد الأدبي ومثال ذلك (( قيل لطفيلي مرة : كيف علمك بكتاب الله ؟ قال : أنا من أعلم الناس به ، فقيل له : ما معنى قوله : ((وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا))(16)، فقال معناه : واسأل أهل القرية ، قيل له : وما الدليل على ذلك ؟ قال : كما تقول أكلت سفرة فلان ، وإنما تريد أكلت ما فيها ))(17) وهنا إشارة واضحة إلى أسلوب (الإيجاز) وهو أحد أساليب علم المعاني في البلاغة العربية .
هذا باختصار وصف للجهود الأدبية في كتاب التطفيل للخطيب البغدادي ، بعد القراءة والتمحيص وجدناه يحمل مرويات شعرية مهمة لشعراء من عصور مختلفة قد ينفرد هذا الكتاب في ذكرها في بعض الأحيان ، وميزته الأخرى أنّه انفرد بالحديث عن التطفيل والتفصيل في معانيه .