الحافظ أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت
الخطيب البغدادي (392هـ ــ 463هـ )
شاعرًا
أ.د حازم علاوي عبيد الغانمي
ضمّت المصادر العربية كنوزاً كثيرة من الشعر والنثر وأخبار العرب وأيامهم ، لم تطالها يد الباحثين بالدراسة والتمحيص ، لشعراء مصنفين تميزوا بالتأليف ، ومن هؤلاء الخطيب البغدادي ، المحدث والراوي والحافظ المشهور صاحب التاريخ.
هو أحمد بن علي بن ثابت بن أحمد بن مهدي ، الحافظ أبو بكر ، يلقب بالخطيب البغدادي خاتمة مؤرخي هذا العصر ، كان من الأئمة المشهورين والحفاظ المبرزين ختم به ديوان المحدثين ، محدث الشام والعراق ، صاحب التصانيف، سبب تسميته بالخطيب : لأنّه كان يخطب بدرزيجان, وقيل أنَّ والده كان خطيباً فيها وهي قرية في سواد العراق ,ولد سنة إحدى وتسعين وثلاثمائة وقيل سنة ثنتين وتسعين.
رغم أن الخطيب البغدادي كان كاتباً ومصنفاً في علم التاريخ على الأغلب ، إلّا إنّه لم يكن هذا العلم انعكاساً لأشعارهِ ، إذ عُدَّ شعر كثير من الشعراء في تلك الفترة وثيقة تاريخية لكثير من الحوادث والفتن التي مرَّ بها العباسيون ، خاصة وأنَّ الخطيب البغدادي عاش بين بغداد ودمشق في أغلب الأحيان ، أي في خضم الفتن ، لكن لم تنعكس على أشعاره ولعله أراد إثبات القدرة على قول الشعر ، وأنَّ التأليف قد مثّل الاتجاه الرئيس ومثّل الشعر الاتجاه الثانوي ، وهذا قد يفسر وصول أشعار قليلة تمثل أغراض الشعر المعروفة ، أو أنّه كتب كثير من الأشعار قد تكون ضاعت أو لم تدون في ذلك الزمان ، وأول ما لاحظناه في شعر الخطيب هو التزامه بالطلل ، إذ لا يحيد البغدادي عن قوانين الشعر المعروفة ، فضلاً عن أنَّ (( جمهور الأدباء والنقاد القدماء رفضوا هذا التجديد في الموضوعات والمعاني والصور ، بل عارضه النقاد وخاصة من غلب عليهم الاتجاه اللغوي ، لأنَّهم كانوا يعدون القصيدة الجاهلية مثالاً يحتذى به في كل زمانٍ ومكان )) ومن ذلك قوله :
لعمرك ما شجاني رسمُ دارٍ وقفت به ولا ذكرُ المغاني
ولا أثرُ الخيام أراق دمعي لأجلِ تذكري عهدَ الغواني
ومن أغراضه الأساسية هو تشخيص عيوب المجتمع ومحاولة الوقوف على حلها ومن ذلك قوله :
طلبتُ أخاً صحيحَ الودِّ محضاً سليمَ الغيبِ مأمون اللسان
فلم أعرفْ من الإخوانِ إلا نِفاقا في التباعدِ والتداني
إذ يشير في البيتين أعلاه إلى ما أصاب المجتمع من أمراض الغِيبة وزلات اللسان والنفاق ، لكنه لم يقتصر في الحديث عن هذه العيوب عند عامة الناس فقط بل يشير إلى العلماء أيضاً كقوله :
وعالمُ دهرنا لا خيرَ فيه ترى صُوَراً تروقُ بلا معاني
ووصفُ جميعهم هذا فما أنْ أقولُ سوى فلان أو فلان
ويشير أيضاً إلى الصداقة والصديق وهي من المعاني الجديدة التي طُرقت في العصر العباسي حيث أشار لها بشار بن برد في أشعاره كقوله :
إذا كنت في كل الأمورِ معاتباً صديقك لم تلقَ الذي لا تعاتبه
فالخطيب يبحث عن الصديق الوفي الذي لا يخون هذه العلاقة ، ويدعو إلى علاقة وطيدة لا تغيرها الخطوب كمثل قوله :
لو قيلَ ما تتمنى قلتُ في عجَلٍ أخاً صَدوقاً أميناً غيرَ خوّانِ
إذا فعَلْتُ جميلاً ظلَّ يشكرني وإنْ أسأتُ تلقّاني بغفرانِ
ويسترُ العَيْبَ في سخطٍ وحالِ رضًى ويحفظُ الغيبَ في سرٍّ وإعلانِ
ومن أغراضه أيضاً الفخر ، ومذهبه هنا مذهب أبي تمام ، إذ كان يفخر بنفسه في مواجهة خطوب الدهر ، فالخطيب يفخر بنفسه في مواجهة الشدائد بقوته وصلابة عوده ورباطة جأشه وإباءِ نفسه :
ولم أكُ في الشدائدِ مستكيناً أقولُ لها ألَا كفّي كفاني
ولكني صليبُ العودِ عَوْدَ ربيطُ الجأشِ مجتمع الجنانِ
أبيُّ النفسِ لا أختارُ رزقاً يجيءُ بغيرِ سيفي أو سناني
وحلَّ الزهد بمعانيه المعهودة في شعر الخطيب ومن هذه المعاني الدعوة إلى ترك الدنيا وزينتها كقوله :
لا تغبطنَّ أخا الدنيا لزخرفها ولا للذةِ وقتٍ عَجَّلَتْ فرحا
فالدهرُ أسرعُ شيءٍ في تقلُّبِهِ وفعلُهُ بيّنٌ للخلقِ قد وضحا
والدعوة إلى مخالفة هوى النفس :
إن كنت تبغي الرشاد محضا لأمر دنياك والمعاد
فخالف النفس في هواها إن الهوى جامع الفساد
والحديث عن الموت وضرورة الاستعداد له ، وأنه ملاقٍ كل الناس حتى الملوك الذي سيصبح نصيبهم من الأرض في النهاية ( اللحد ) كمثل القول المنسوب له :
استعدي يا نفسُ للموت واسعيْ لنجاةٍ فالحازمُ المُستعدُّ
أي ملك في الأرض أو أي حظ لامرئٍ حظّه من الأرض لحدُ
وقد نظم الخطيب أشعاراً في الغزل ، ولكنه ــ على خلاف شخصيته الوقورة وعمله في الحفظ والحديث ــ كان غزلاً بالمذكر ، ولعل بعض هذا الغزل كان مقدمات لقصائد ضائعة فقد برزت ظاهرة الغزل بالمذكر في العصر العباسي الأول و هي ظاهرة جديدة لم يألفها الشعر العربي من قبل و لعلها كانت نتيجة لما شاع في المجتمع العباسي من تغير في العلاقات الاجتماعية و الحضارية , و لقد كان لهذه الظاهرة أثرٌ في مقدمات القصائد عند بعض شعراء العصر العباسي، وقد أثار هذا الغزل الاعتراض عند معارضيه، وفي بعض هذه الأشعار يبيّن الخطيب أنَّه قال الغزل في وقت متأخر من عمرهِ :
قد شابَ رأسي وقلبي ما يغيّره كرُّ الدهورِ عن الإسهابِ في الغزلِ
وللخمرةِ نصيبٌ من شعر الخطيب رغم قلته ، وذلك لذيوعها وشهرتها في الشعر في عصره ، ولم تشرْ الروايات إلى لهوه ومجونه في الخمرة ، بل أشارت إلى وقاره وشخصيته المعتدلة ، ولكنه وكعادة الشعراء أراد إثبات القدرة في هذا المجال ، ومن الخمرة قوله :
الخمرُ والوردُ حقٌ ليسَ أجحدُهُ إذ ناسبا مَنْ بدا منه بلا يـــــــاي
فالخمرُ من طيبِ ريحِ الحُبِّ قد شَرُفَتْ والوردُ أضحى يُحاكي خدَّ مولايَ
وهنا إشارة واضحة للخلط بين الحب والخمرة ، إذ يتلاعب الخطيب بالألفاظ ليعبّر عن الحبِّ والمشاعر من خلال نشوة الخمرة ولذتها كقوله أيضاً :
خُمارُ الهوى يُرْبي على نشوةِ الخمرِ وذو الحزم فيه ليس يصحو من السكرِ
وللحبِّ في الأحشاء حرٌّ أقلّه وأبردُهُ يوفي على لَهَبِ الجمرِ
وترد الشكوى من الزمان وحوادثه قليلاً لدى الخطيب حسب ما ورد من أشعارهِ ، إذ يشكو فيها الفراق وأظنه فراق أحد الأحبة لأنه يشير إلى أن هذه السهام أصابت قلبه :
إلى اللهِ أشكو من زماني حوادثاً رمتْ بسهامِ البينِ في غرضِ الوصلِ
أصابت بها قلبي ولم أقْضِ منيتي ولو قتلتني كان أجملَ بالفعـــــــــــــلِ
هذه أهم الأغراض التي وردت في أشعار الخطيب وهي لا تخرج عن الأغراض المعروفة في العصر العباسي ، لكننا لم نجد أشعاراً في المديح والرثاء والهجاء ، وكما أسلفنا قد يعود السبب إلى ضياع شعرهِ أو عدم تدوينه ، أو كان شعره انعكاساً لشخصيتهِ واتجاهاته .