في مَفهومِ الشِّعـريَّة وتَجَلِّياتِها عند العَـرب والغـَرب
أ.م.د. فلاح عبد علي سركال
جامعة كربلاء/ كلية التربية/ قسم اللغة العربية
الشعريّةُ مُصطلحٌ أدبيٌّ قديمٌ حديث، تُنسب أصوله إلى آرسطو في كتابهِ (فنّ الشعر)، وهي ترجمة للكلمة الإنكليزية (poetics)، وإنَّ المُتتبع لجذور الشعرية في التراث البلاغي والنقدي عند العرب يجد لها تجليات واشارات كثيرة، مثلاً عند الجاحظ في تعريفه للشعر وحدودِهِ، وعند المرزوقي في حديثة عن أركان عمود الشعر، وفي نظرية النظم عند الجرجاني، وعند حازم القرطاجني في نظرية (المحاكاة والتخيل).
وعلى الرغم من التباين الذي ظهر عند أصحاب النظريات الحداثية التي تسعى إلى تحديد مكمن الإبداع وسرِّه في النصوص الأدبيّة، كنظريّة التماثُل عند جاكوبسون، ونظريةُ الانزياح عند جان كوهين، ونظرية الفجوة/ مسافة التوتُّر عند كمال أبو ديب، إلّا أنَّ مفهوم الشعريّة ينحصرُ في فكرةٍ عامّة تتلخّص بالبحثِ عن القواعد والقوانين التي تحكم حدود العملية الإبداعية، فهي مرتبطة بشكلٍ أساس بالإبداع والابتكار الذي تنتجه موهبة الأديب، عن طريق الانتقاء وإعادة صياغة اللغة الأدبية لتخرج من المستوى التقريري المباشر الى المستوى الرمزي والايحائي غير المباشر الذي يتيح للعمل الأدبي سمة التميُّز والقدرة على خلق الإثارة والـتأثير.
وقِيلَ أيضاً أنَّ الشعريّة تعني علم الأسلوب الشعري الذي يبحثُ عن الإبداعِ، والتفرُّد، والطّاقةِ المُتفجرةِ في الكلام المتميّزِ بِقُدرتهِ على الانزياح، وخلقِ حالةٍ من الشّعورِ بالدهشةِ والمُتعةِ والتَّوتُّر، وهي خصيصة علائقية تتجسّد في النص في مجموعة من العلاقات التي تنمو بين مكونات النص، سمتها الأساسية أَنّها إذا وقعتْ في نصٍّ آخر قد لا تُكوِّنُ شعريّة.
فشعريّة النصِّ الأدبي تتحقق في بنيته العميقة لا البنية السطحية، وشرطها الأساس الذي تقوم عليه هو الانزياح والانحراف عن المعيارية والنمطية إلى لُغةٍ مجازيّةٍ بلاغيّةٍ مُوحيةٍ، قد تكون دلالتها غير ظاهرة، وإنّما تتحقق في إعمال الفكر والذهن، فهي خروجٌ على المألوف، وخرق لقواعد اللغة وقوانينها وسننها، وانتقال لغة الشعر من فضاء المُمكن إلى فضاءي الممتنع والمستحيل.
فالمجاز من أَهمِّ مُقوماتِ الشعريّة؛ لأنّهُ يقوم على التخييل، فـاللغة المجازية تبرز الكلام في صورةٍ مستجدةٍ، وتُعطيك الكثير من المعاني باليسير من اللفظ، حتى تُخْرِجَ من الصَّدَفَةِ الواحدة عدّداً من الدُّرر، وتجني من الغصن الواحد أنواعاً من الثمر، وبها ترى الجماد حيّاً ناطقاً، والأعجمَ فصيحاً، والأجسام الخُرس مُبَيِّنةً، وهي تُريك المعاني اللطيفة التي هي من خبايا العقل كأنها قد جُسِّمتْ حتى رأتها العيون، وتُلطِّف الأوصاف الجسمانية حتى تعود روحانية لا تنالها إلّا الظنون، وما ذلك إلّا بسبب الانزياح الذي تحدثه.
وعلى الرغم من تباين آراء النقاد والدارسين في معنى الشعرية ألا إننا نجدهم يتّفقون على أنّ الشعرية تقوم على عناصر عدّة، منها الغرابة التي تُمنح النص التفرُّد والادهاش، وتعطيه تفسيرات مختلفة تذهب بالنفس كلّ مذهب، وتُظهِر المعاني بثوبٍ جديد، ولهذا عدوّها من جماليات اللغة الشعرية، وكذلك الغموض غير المبهم؛ لأنّه يثير في النفس ما لا يُثيره الايضاح، مُضافاً إليها الابتكار والجدّة والبُعد عن الواقعية، ولهذا قال الجاحظ: النَّاس موكَّلُون بتعظيم الغريب، واستطراف البعيد، وليس لهم في الموجود الراهن، وفيما تحتَ قدرتهم من الرأي والهوى، مثل الذي لهم في الغريب القليل، وفي النادر الشاذ.
ولهذا نجد أنَّ أودنيس يذهب إلى أنَّ لغة الشعر ليست لغة تعبير بقدر ما هي لغة خلقٍ، ولغة إشارةٍ، في حين أنّ اللغة العادية هي لغة الإيضاح، فهي أكثر من كونها وسيلة إيصال أو تفاهم؛ بل هي وسيلة استبطان واكتشاف، ومن غاياتها الأولى أَنْ تُثير، وتُحرِّك، وتَهزُّ الأعماق، وتفتح أبواب الاستباق.
وكذلك أَكّدَ النقاد على إشراك الخيال في ذلك، لجمع الأشياء المتباعدة في الحقيقة، ولو رجعنا الى مقولة الجاحظ: إنّما الشعرُ صناعةٌ، وضربٌ من النسج، وجنسٌ من التصوير. نجد هذا القول قد شغل النقاد، واجمعوا على أّنه كان يعني بالصناعة الصياغة أو فن تركيب الكلام وسبكه، ومن هنا جاء تشبيهه الشعر بالنسيج، وفي قولهِ كذلك إشارة الى أهمية عنصر الخيال في الشعر؛ لأنَّ الخيال يُركِّب الصور ويخترعها اختراعاً، فالشعر ليس نقلاً حرفيّاً للواقع، بل هو أوسع من ذلك وابعد؛ فهو عملية (مغايرة) الواقع، فالشعر يستطيع أنْ يُصور أشياء يمتنع وجودها في الواقع.
فـاللغةُ الشعريّةُ لغةٌ خاصةٌ مُتفرِّدةٌ، وسرُّ تفردِها أَنَّها تتميز من شاعر لشاعر، ومن عصر لعصر، فإذا كانت اللغة عنصراً من عناصر الشعر المهمة، فلا بد للشاعر أن يسلك فيها مسلكاً خاصاً، ليستطيع فيها أن يؤدي معاني بطريقة تختلف عنها فيما عدا الشعر من فنون القول، ومعنى هذا أنَّ عليه أَنْ يختارَ ويتحرى الجميل المناسب، والأنيق الحسن.
إذن فالشعرية ترتبط بالمفاهيم والمقومات الأدبية بعلاقات تقوى وتضعف بحسب طبيعة التوظيف والاستعمال، فالعلاقةُ مثلاً بينها وبين الصورة الفنيّة علاقة وثوق وترابط، بشرط أنْ تمتاز بالتفرُّد والجدة والغرابة؛ وذلك من أجل إظهار الجانب الجمالي للنص، وتبيان الإبداع الفني الذي يمتلكه الشاعر في توظيف فنون البلاغة العربية بلغة مجازية تخرج عن المعيارية؛ لأنَّ الشاعر المُبدع قد يخرج على نمطية اللغة وينحو بها عن دلالاتها الحقيقية إلى دلالات مجازية، ويُعيد بناء عناصر النص على وفق غرضه المقصود باستعمال أدوات اللغة المناسبة، متجاوزاً حدود اللغة التقريرية المعجمية والتصرف بكلِّ ذلك من أجل إخضاعها لتجربته الشعريّة التي تفتح آفاق النص الشعري أمام المتلقي.