تمثلات المشكو له في قصيدة الشكوى  
د. دعاء كميل ضيف الله
قسم اللغة العربية                    
الشاعر حين يصدح بقصيدته فهو يهدف إلى إشراك المتلقي في تجربته الشعرية ، وأول دور للمتلقي يكمن في تعمد الشاعر استهدافه ، والتفكير به في أثناء إنشاء نصه ، وتطويع النص ليكون متوافقا مع ذائقة هذا المتلقي سواء إن كان هادفا لإرضاء هذه الذائقة أو إستفزازها ” فللمرسل إليه بالمرسل علاقة حضور وهيمنة ذهنية … ومن شان هذه العلاقة كذلك ، أن تخفف من حدة الغموض في إبداع المرسل ، فتأتي رسائله متواشجة في أساليبها ومضامينها مع تلك الصور الواقعية أو المتخيلة للمرسل إليهم ” (1) ، والأديب بطبعه الاجتماعي يستهدف المتلقي فحين يبدأ بنقل أفكاره إلى  النص المكتوب يحاول جاهدا المطابقة مع قارئيه(2) ، ويتمثل التحدي للشاعر المجيد في حسن اختياره لمتلقيه “وأما الصعوبة كل الصعوبة فهي أن يعرف الإنسان متى يتكلم ، وماذا يقول ، وعلى أي نحو يتحدث ، وكيف يعبر عن نفسه ، وإلى من يتوجه بالحديث ” (3).
      ولأن الشكوى في أصلها الإعلان عن ألم الشاعر وهمه والبحث عن شفاء لهما ، فهو يحتاج لمن يشكو له فموضوع الشكوى بشكل خاص لا يقوم إلّا بوجود متلقٍ ، حتى قال الشاعر (الطويل)(4):
وَلا خَيرَ في الشَكوى إلى غَيرِ مُشتَكي       وَلا بُدَّ مِن شَكوى إذا لَم يَكُن صَبرُ
وقال ابن نباتة المصري (ت 768هـ) (الطويل)(5):
شكوت إلى سفحِ النقا طول نأيكُـم       
ولا بدَّ من شكوى إلى ذي مروءةٍ       
وسفحُ النقا بالنأي مثلي مروَّع
يواسيك أو يسليــــك أو يتوجّع
      فالحاجة إلى وجود مشكو له يعد عمود قصيدة الشكوى إذ ” غدا الفن وسيطا تصالحيا بين الإنسان والطبيعة ، ومحررا من العزلة والإغتراب عن الواقع ،ومعززا إنسانية وانصهار الفرد في بوتقة الجماعة ” (6).
            وقد اهتم النقد القديم بالمشكو له ، إذ وجه أبو هلال العسكري الشاكي إلى مراعاة آداب خاصة إذا أراد رفع شكواه “وسبيل ما يكتب به التابع إلى المتبوع في معنى الاستعطاف ومسألة النّظراء ألا يكثر من شكاية الحال ورقّتها، واستيلاء الخصاصة عليه فيها، فإن ذلك يجمع إلى الإبرام والإضجار شكاية الرئيس لسوء حاله وقلّة ظهور نعمته عليه. وهذا عند الرؤساء مكروهٌ جداً، بل يجب أن يجعل الشكاية ممزوجة بالشكر والاعتراف بشمول النعمة وتوفير العائدة”(7) ، ويدل هذا النص على إن الأديب لابد له من مراعاة حالة المشكو له وذائقته ، فهو وإن كان موجها لكتاب الحكام ومختصا بشكايات تابعيهم ، إلّا إنه يمكن اعمامه على كل نص شكوى إذا أُريد له أن يبلغ غايته من التأثير في المشكو له .
ويمكن الاستدلال على المشكو له في نص الشكوى  :
الأول : حضور صريح : ويأتي على ضربين :
  • حين تكون الشكوى لفظية يتعدى الفعل (شكا) بـ (إلى) :
  قال تعالى حكاية على لسان نبي الله يعقوب – عليه السلام- : ” قَالَ إنما أشكو بَثِّي وَحُزْنِي إلى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ “(8) ، وعلى لسان امرأة معنفة من زوجها : ” قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله”(9) ، وفي دعاء الرسول – صلى الله عليه واله وسلم – : “اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس أنت رب المستضعفين وأنت ربي”(10) ، وفي الحديث “شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الرَّمضاء فما أشكانا”(11).
وقول الشاعر سنان المري (البسيط)(12):
إِن أُمسي لا أَشتَكي نُصبي إلى أَحَدٍ       
وَلَستُ مُهتَدِياً إِلّا مَعي هادِ
          ويلاحظ في هذه النصوص إن الفعل (شكا) يتعدى للمشكو له بالحرف (إلى) ” وهي من الحروف العوامل ، … ، ومعناها انتهاء الغاية “(13) ، فغاية نص (الشكوى) لا يتم إلاّ بوصوله إلى المشكو له ، فهو منتهى مطلبه ، وهي إعلان عن احتياج إلى الأخر والتواصل معه.
  • حين يكون المشكو إليه منادى:
مثل قول أسماء أخت كليب (الرمل)(14):
يا قَتِيلاً قَتلُـــــــــهُ جَرَّعَني
صِرتُ في لُجَّةِ بَحرٍ زاخِرٍ
لَيتَني ما عِشتُ يَوماً بَعــدَهُ       
عِنــــدَ فَقديهِ نَقعَ الحَنظَـــــلِ
صاعِداً طَوراً وَطَوراً يَنزِلُ
لَيتَني قَرَّبَ مَوتــــــي أَجلي
فهي تنادي أخاها القتيل لتشكو له ما حل بها بعد رحيله .
وكلاب بن مرة وهو يشكو حبا لامرأة لم يرها ، يناديها على البعد (الطويل)(15):
أَفاطِــــــمُ هَل مــــــــا أَلقَيَنَّـــــكِ مَرَّةً       
سَأَبغيكِ في الأَرضِ العَريضَةِ جاهِداً       
وَهَل يَجمَعُ الدانينَ ضَيفٌ وَمَربَعُ
فَأَيأَسُ أَو أُعطى الَّذي فيــهِ أَطمَعُ
فالمخاطبة فاطمة هي وإن كانت تمثل المشكو منها لما كان فراقها سبب عذابه ، فهو لا يجد إلاّ أن يشكو لها ما يكابده لأنه يريد أن يشركها معه فيه .
وأم حكيم بنت عبد المطلب تجعل من عينها مشكوا له (الوافر)(16):
ألا يا عين جودي واستهِلّي
ألا يا عينُ ويحَـك أسعديني       
وبكّي ذا النـدى والمكرُمات
بِدَمعِك من دمـوعٍ هاطِلاتِ
والرواية لهذه الأبيات تحكي عن الأب الذي طلب من بناته أن يرثينه في حياته ، فالشاعرة هنا لا تشكو ألما حقيقيا ، ومخيالها جعلها تستدعي العين لتكون مشكوا له لتضخم الحزن أمام المرثي (والدها) فهي تشكو وجعها لنفسها (عينها) .
الثاني : المشكو له مضمر : يفهم من السياق:
     من ذلك قول الحارث بن عباد لما اخبر بمقتل ابنه بجير (الخفيف)(17):
قُــــــــل لِأُمِّ الأَغَرِّ تَبك بُجَيراً
وَلَعَمــــري لَأَبكِيَــــــنَّ بُجَيراً       
حيل من دونه فسحت دموعي
لَهفَ نَفسي عَلى بُجَيرٍ إذا مــا       
حيلَ بَينَ الرِجـــــــالِ وَالأَموالِ
ما أَتى الماءُ مِن رُؤوسِ الجِبالِ
بسجال كمثل ســــــــح العزالي
جالَتِ الخَيلُ يَومَ حَربٍ عُضالِ
فالشاعر هنا يستهدف كل المتلقين لقصيدته ، ففضلا عما فيها من استنهاض للثأر ، فإنه يبتدئها بنوح وتوجع ما هو إلاّ شكواه مما أصابه من فقد لابن عزيز .
وكذلك قول تأبط شرا حين غزا مع ابن عم زوجته فقتل وعاد مهزوما فهو يشكو لومها إياه (الطويل)(18):
أَلا تِلكُما عِرسي مَنيعَةُ ضُمِّنَت
تَقولُ تَرَكتَ صاحِباً لَكَ ضائِعاً
إذا ما تَرَكتُ صــــاحِبي لِثَلاثَةٍ
كَأَنّي أَراها المَوتَ لا دَرَّ دَرُّها
وَقالَت لِأخرى خَلفَها وَبَناتُهـــا       
مِنَ اللَهِ إِثمــاً مُستَسِرّاً وَعالِنــــا
وَجِئتَ إِلَينا فــارِقاً مُتَباطِنـــــــا
أَوِ اِثنَينِ مِثلَينا فَــلا أُبتُ آمِنــــا
إذا أَمكَنَت أَنيابَها وَالبَراثِنـــــــا
حُتوفٌ تُنَقّي مُخَّ مَن كانَ واهِنا
فالمشكو له الذي أراده تأبط شرا هم كل اللائمين الذين سيقولون ما قالته زوجته ، فهو يشكو لهم منها ليخبرهم أنه يتحمل منها فوق هزيمته .
الهوامش:
() نظرية التوصيل في النقد الأدبي العربي الحديث: 140.
(2) ينظر: في النقد الأدبي: 191.
(3)مشكلة الحياة : 80 .
(4) مرآة الزمان في تاريخ الاعيان : 9 : 557.
(5) ديوان ابن نباتة المصري : 295.
(6) الجنسانية اسطورة البدء المقدس: 64.
(7) كتاب الصناعتين :158.
(8) سورة يوسف : آية : 86 .
(9) سورة المجادلة : آية: 1.
(10) المستطرف في كل فن مستظرف : 2: 544 .
(1) مفردات غريب القرآن : 354.
(12)الاصمعيات : 71.
(13) معاني الحروف : 128.
(14) اعلام النساء في عالمي العرب والاسلام :1: 61.
(15) الإيناس في علم الانساب : 174.
(16) شاعرات العرب في الجاهلية والاسلام : 118.
(17) ديوان الحارث بن عباد :192.
(8) ديوان تأبط شرا : 212.
 

شارك هذا الموضوع: