الآخر المعنوي عند الشاعر تميم بن المعز لدين الله الفاطمي
م.د. فاطمة محسن هبر
هو كل ما يحيط بالذات الإنسانية من دون الإنسان، مؤثراً ومتأثًرا فيه، فالطبيعة الإنسانية في علاقاتها لا تقتصر على الآخر الإنسان، وإنما ترتبط بكلِّ ما يحيط بها، محسوس وغير محسوس فتتفاعل معه، وجعل الشاعر من كلِّ ما يحيط بهِ في الكون آخر يتفاعل معه ، فيؤثر في أحاسيسه النفسية، فالدهر، والمكان، والطبيعة وما ينتج عنهم عدَّها الشاعر آخر تسعى الذات لبيان علاقتها بهِ، وتأثيره عليها، وهي غالبًا ما تعكس مشاعرها فيه؛ ولربما يجد لشاعر في هذا الآخر عوضاً عن نقص تفتقر إليه ذاته، وهذا يرتبط بتجربته الواقعية التي يعيشها، وقد شارك الشاعر الفاطمي هذا الآخر المعنوي تجاربه، وعواطفه على اختلافها، وعلى هذا فقد يكون آخر مشاركاً له يبثّ له همومه وأحزانه، وما تحمله ذاته من ذكريات قد شهدها معه كالطلل، أو جعل منه آخر متسلطاً فحمَّله من السلب بفقد الأحبة، أو سلب منزلة كالدّهر، وقد يتآلف معه فيكون بذلك آخر مؤنساً له في أغلب الأحيان كالطبيعة، وبناء على هذا يمكننا تقسيم هذا المقال على ثلاث؛ الأول: الطلل بوصفهِ آخر. والثاني: الطبيعة بوصفها آخر. والثالث: الدَّهر بوصفهِ آخر.
أولاً: الطلل: كان الباعث لذواتهم على اللّذة والألم، والحزن والحنين، والذكرى والشوق، بل مثّل المسرح الحقيقي لحياتهم الماضية، والآخر المعنوي الذي يصبّون فيه تجاربهم؛ لذا كان له تأثيرٌ واضحٌ في نفوسهم ومشاعرهم، فعملوا على ترجمة جزئياته، وهذا الإحساس بالتجربة معه يُظهر فيه تحسّرهم وتفجّعهم على أيامهم معه ، فهناك ارتباط مصيري بين الطَّلل والأنا الذي يشترط ابعاده، ليؤكد نزعته إلى الاستقرار، ومن ثمَّ تحقق الذات، وهذا ما نجده عند الشاعر الفاطمي فتميم الفاطمي في إحدى مقدماتهِ الطّللية يقف على رسوم ديارٍ رسمها ليبث عبرها شكواه، وما يحمله من أسى، قال: (الخفيف)
يـا طلـُـول اللَّـوى غـَــدوتِ رسومـاً دارســاتِ الأَعـلَام والأحْجَــارِ
بعــد ما كنتِ مـألـف العزّ والحُســ ــــن وملْهَــى لأعيـنِ النظـــــار
وكـذاك الزَّمـَـان منقلــب الحــــــــا لـين بيـن الإقبــال والإدبــــار
أسقط الشاعر ما في ذاته على الآخر، فجعل منه مرآة تعكس خبايا نفسه المحطمة، فالإقفار الذي أصاب تلك الطلول هو ذاته الذي أصاب نفسه الطموحة المتعالية الحالمة الأبية، بعد أنْ تقلّب بهما الزمان، فقد وجد في هذا الآخر/ الطلل موضوعاً يتناسب مع نوازع نفسه المضطربة إثر ما حلَّ عليها، ومن ثمَّ تحويل رؤيتهِ النفسية لهذا الآخر إلى متنفس يخلع عليه صورته المغيبة، فالأنا ترى واقعها المحبط المستلب لحقه في الخلافة، وطموحه المنكسر، والاغتراب النفسي الذي هو عليه بعد أن فقد ثقته بأقرب ناسهِ في هذا الطلل الذي لم يبقَ منه سوى رسوم دارسة يقف عليها.
ثانياً: الطبيعة: خلق الإنسان مصاحباً للطبيعة وما يدور فيها وارتباطه بها ارتباط عضوي لا انفصال بينهما، فهو حين يفتح عينيه على ما حوله يرى نفسه في صميم الطبيعة المترامية الفسيحة جزءًا لا يتجزأ منها، فـشكلت ” آخر غير أناه ساعياً إلى توليد سياق جديد لعلاقته بها، بدءً من المهادنة والتودد إليها تارة أولى ، والصراع معها تارة أخيرة، ليتولد أول شكلٍ من أشكال الصراع بين ثنائية الأنا الواعية، بكونها جزءً من الذات الإنسانية، والآخر الطبيعة” ، منها إذ اتخذ من النيلوفر/ آخر رسول محبة بينه وبين أصدقائه ومن يألفهم، من ذلك قوله: (السريع)
بَعَثتُهُ يحكيكَ في بعضِ ما ألبَسَــكَ الشــوقُ لــرؤيانـا
لــكـنّــه يُهــــدِي بأَرْواحِــــه إلــيــكَ مَغْدانــا ومُمْســانــا
نَبِّئْ أَيا نيلُوفَرَ النَّبْتَ عَنْ وُدِّى بتَضْـوِيعِــكَ إنْســانــا
وقُل لــــه لا صلَحتْ حالــــةٌ تَنهَــاك عــن أن تتلقّــانـــا
ما جَمّل الأيَّامَ خَلْقٌ كمــا جـمّـلْتـَهـا حُسْنــا وإحـسـانــا
اتخذ الشاعر من النيلوفر/ آخر رسول محبة بينه وبين صديقه ، فشخصه على أنّه إنسان آخر يحمل شوقه ووده إليه، وأعطاه من السمات الحية التي تقربه من الآخر الحقيقي الذي يعبر وينبئ بما تحمله الذات من مشاعر إلى الطرف الآخر، ولعل اختيار الأنا لهذا النوع من الورود دون غيره راجع إلى تعلقها عاطفياً به وقربها منه دون غيره وما تحمله من إحساس نحوه، ولربما يجد فيه تعويضاً لنفسه المفتقرة للآخر الذي يألفه، وقد نجحت الأنا في خلق تلك العلاقة بين الألفاظ وتفجير الطاقات الكامنة فيها، وهي مرتبطة بتجربة الشاعر إزاء الطبيعة/ الآخر وإزاء هذا الصنف (النيلوفر) بخاصة؛ الذي وجد فيه خير مرسال لنقل المشاعر الخاصة بهِ.
ثالثاً: الدهر: الدهر الوجه الضائع للزمن بما يُحمِّله للإنسان من الخطوب والأمور العظيمة والنوائب التي تثقل كاهله، لذا سمِّي دهراً ، فهو وليد ” ذاك الزمن الضائع الذي يولد في اللحظة التي يموت فيها ، وبهذا الاطّراد تخلق الاستمراريّة في الزمن، وهذا ما يفسّر لنا امتلاء الشعور بالوجود في حال الحاضر”؛ فمن ذلك قول تميم الفاطمي مخاطبًا الدّهر وكأنه إنسان ماثل أمامه ؛ لأنه ما برح يحاربه حربًا لا هواده فيها ، حتى إن قلبه لا يلين له ، فهو ما زال يعصيه في كلِّ أعماله ، وهو على الرغم من ذلك لم يقترف ذنباً تجاهه، فقال : ( مجزوء الكامل )
يا دهرُ كم يشتَدُّ حَرْبُكْ ويَكُـرّ بالنَّكَبــات خَـطــْبُــكْ
ما بالُ جـَـوْرِك لا يُفِيـــ ـــق ولا يَليـن عـلـيَّ قَلبُـكْ
عاصَيْتَني حتى لقـــد أوهـمـتَـنــي أنـــي أُحِــبُّـــكْ
يا دهــرُ ما ذنْـبـي إليــــ كَ وقـد تعــاظـمَ فـيَّ ذنـبـُكْ
بـَيـني وبينـَك في الــذي أولـيـتــنـي ربِّـــي وربُّــــكْ
فالشاعر يصور الدهر على أنه آخر معادٍ له ما زال يصب عليه جم غضبه، معلنًا حربًا لم يجد لها سبباً، فجوره كبير عليهِ، وذنبه قد تعاظم، لذا نراه خاطبه بأنه سلّم أمره لله (جل وعلا)، إن ما جرى لتميم من أحداث جعله يلقي باللّوم على الدّهر وكأنه المسبب الذي سلب حقوقه، وجرده من منزلتهِ التي طالما انتظر تحقيقها، ومن ثمَّ لم ينل منها الحلم، لذا قام بإلقاء اللّوم على الدّهر تارة وعلى الزمان تارة أخرى تنفيساً عن ما يجول في خاطره، أي إنّ الدهر بما حمله من صروف قاد الشاعر للبوح بما يعتمل في نفسه، وكان للنداء فضل في إعطاء الحركة العاطفية التي استوعبت كم المشاعر المؤلمة التي يحملها قلبه والتي عبر عنها بأسلوب يدل على انهزام ذاتي وخضوع لما قدر عليه الآخر، وهنا يشير إلى الحرمان الحقيقي الذي يشعر بهِ، وما عبر عنه يعد تجسيم معاناته أولاً، ومحاولة تفجير حالة شعورية مماثلة عند المتلقي مع حالته النفسية ثانياً.