الـ ( أنا ) الفردية عند الشاعر الفاطمي
م.د. فاطمة محسن هبر
يتناول هذا الاتجاه الجانب الشخصي للشاعر، مرتبطًا بتجربته الشعرية والانفعالات والأحاسيس التي تندرج تحت مظلة الذات . تظهر خصوصيات الذات الشاعرة في تلك التجربة الموضوعية والثقافية والمعرفية، إذ تعكس حال المجتمع الذي يعيش فيه والعوامل التي تشكل مصدرَ فخر أو انتقاص لذاته من ثم ، تعدُّ قصائدها وعاءً يبرز تكوينها بأشكال وأنماط متعددة ، فهي: صورة لشخصية ناظمها، ومرآة أيضاً تترآى فيها روحه من أهواء ونزعات وتأملات فالشخصية معقدة وتشمل هويات وشخصيات فرعية تدعى أحياناً (الأنوات المتغيرة) التي قد تؤدي إلى الصّراع ؛ فقد تكون لها أهداف مختلفة في آن واحد، وقد تتناوب في الظهور بسبب ظروف الحياة، فنجد الشاعر أحياناً يتغنّى بما يحمله من مقومات من نسبٍ وحسبٍ وكرمٍ وشجاعة، وغيرها، وهو ما يدعو بالأنا إلى أن تبرز لديه بشكل متعالٍ فيحتفي بها أيّما احتفاء في كلِّ موقفٍ، وفي موضع آخر نجدها تقلل من شأنها لتبدأ في موضع قد يكون في مرتبة دنيا من المجتمع، وهي في كلِّ هذا تحاور الآخر بأشكاله كلها، وفي كل مكانٍ وزمان، وبحسب ما يستدعيه الموقف، فيكون الآخر متعلقاً بالذات تعلقاً لا فكاك منه شأنه في ذلك ارتباط الحياة بالموت، وقد أثبت (دريدا) أن الآخر هو المصدر الحقيقي في الخطاب؛ لأن الأنا لا تستطيع خلق كينونة خارجية ضمن نفسها دون أن تصطدم بالآخر، كل ما يظهر من الأنا نابعٌ من نتيجة تفاعلها مع البيئة المحيطة بها، وتأثير هذا التفاعل يظهر في مظاهر حياتها الفردية وهويتها وانتمائها الاجتماعي، ويمكننا فهم طبيعة الأنا في الخطاب الفاطمي كمرآة لتعبيرها عن تلك التفاعلات، ويقصد بالهوية هنا:” مجموعة من الصفات التي تميّز ذاتًا عن غيرها من الذوات في اللغة، والعادات، والتقاليد، والقيم وغيرها التي تشكّل في مجملها (ماذا؟) كما تعي ما يشبهها وما يغايرها في إطار محددات تلك الهوية التي ينتمي إليها ما يفضي إلى صعوبة تحديد الاختلاف الكامن بينها وبين غيرها، في هذه الحالة، يستعين الشاعر بالتحقيق في جوهر المقومات الفنية ليظهر ذاته بشكل متواصل أمام الآخر. ويبني خطابه وحواره بصورة مستمرة، إذ تكون ذاته محورًا أساسيًا يركز عليه النص الإبداعي، فيُظهر الشاعر صورة شاملة لذاته، تكون لغته تعبيرًا عنها، يكون لسان حال لذاته، وذلك برسم صورة مكتملة تبرز أناه الناطقة ، فيكون الشعر الوسيلة التي يعتمد عليها للتعبير عن ميزاته وسجاياه؛ سعيًا إلى إبراز ذاته بغرض تحقيق الاشتهار الذي يسعى إليه، مثلما نجده عند تميم بن المعز لدين الله الفاطمي: (الخفيف) 
أنــــَا مِـــنْ رِقةِ الهــــوى والهَـــواءِ         ومـــــنَ النـــــُّورِ أُلــــفِّــــــــتْ  أَجـــــزائِي
فكأني والشَّعرَ  والأَوجهَ البِيــ          ــضَ بدورٌ في  ظُلــمَــةٍ  في سَــمــاءِ
جلَّ قدري عن الغِلالَةِ   والتِّكّـ          ـة  والـــقُــمــصِ   والـــقَبـــَا   والــرَّداءِ 
 هذه الأبيات تعبّر عن تجربة ذاتية تحاكي روح الحب والجمال، مع إظهار الشاعر لتأثيرات الهوى والنور على وجوده ، والأفكار المُوضحة في الأبيات هي :(رقة الهوى والهواء والنور) : يُرَسِّخ الشاعر في أول بيتين فكرة أنه نشأ وتكوَّن بوصفهِ جزءًا من جمال الحب وخفة الجو، وأن جزءًا منه هو نتاج للنور الذي أُلّفت أجزاؤه منه ، والفكرة الأخرى: ( تضحية الحسّان بوجه الأم والأب) : يُظهِر الشاعر تضحيات الحسّان (الخرد الحسي) له ، حيث يبذل جهدًا وتفانيًا دون اللجوء إلى الأمهات والآباء، وأيضا (القيان وألحاظها) : يُشير الشاعر إلى غناء القيان ، ويبرز أن ألحاظها تظل موجهة نحو الندم، مما يمكّن القارئ من التأمل في تناقض بين الجمال الظاهر والألم الداخلي ، أما الفكرة الأخرى : (الشاعر والشعر والأوجه): يُعِدُّ الشاعر نفسه والشعر جزءًا من المظهر الجمالي، مُقابلًا الظلام بدورٍ يلعبه الشعر والوجوه البيضاء، وفكرة :(جلّ قدره عن الملابس) : إذ يُعبِّر الشاعر عن انفصاله عن العناصر الأرضية والمادية عن طريق التنازع عن الغلالة والتكة والقمص والقباء والرداء، مما يُظهِر رغبته في التحلي بالروحانية والبساطة .
تتجلى في هذه الأبيات استخدام الشاعر للصور والرموز للتعبير عن تجربته الشخصية وتفاعله مع جمال الحب والفن والروحانية وهذا بحدِّ ذاته إفصاح عن أنا قوية وشاخصة بصفاتها ونضجها ؛ لأنه كشّفَ عن جلبابها بوصفهِ لها وما يعتريها من أفكارٍ وانفعالات تُخلّد هذه الأنا ، ويبدو أنّ تميمًا قد استوحى فكرة هذا النمط من اعتزازهِ بنفسهِ، واغتراره (بأناه) مما أملته العقيدة الإسماعيلية التي افترضت خلق الخليفة الفاطمي من( نور)، ومحاولة لظهور شخصه مثل تميم هو ليس بحاجة لها ؛لما يمتلكه من منزلة اجتماعية وأدبية لكن الواقع الذي فُرض عليه في سلب الخلافة منه وإيكالها إلى أخيه الأصغر غيّر من مشاعره ، فبعد أن كان يعيش في واقع صار يعيش في أحلام لا تتحقق حتى تحولت إلى عقدة نفسية لزمته طوال حياته تمثلت في حبّ الظهور والتفاخر على الآخر وإقصائهِ إلى أبعد حدِ ، وكأنه يشفي معاناته بهذا، حتى نجده في موضع آخر، يقول : ( المتقارب )
        ولا تَطلبــــُوا  رُتْــبـــتِــي  إنَّــنـي         مَلَأتُ  السّمَــاء  بتكثِيْرهَـــا؟
ولا  تَفعَلُوا  فِــعـــلَ  آبَـــائِــكَـــم         فَتَخطُونَ خُطوَى  بتَطْهِيرِهَا
وَرثْــتُ  سِيـَـاســـة  مَهـْـدِيِّــهَــا         وحُزْتُ شَـجَاعَةَ منصُــورِهَا
      يبدو أن الشاعر، في لحظة انفعال عالية ، قام بإبراز ذاته ، مُعلنًا أن وجوده يمتلئ بالسماء، يُعرف في كل ميدان سياسي، وشجاعة متأصلة ، والإمارة التي فُقِدَت منه لا تبتعد عنه كثيرًا ، إذ إنَّ بعض النقاد أشاروا إلى أنه كان أحد أكابر أمراء دولة أبيه وأخيه، وكان شاعرًا له مكانة فقد: كان من أكابر أمراء دولة أبيه وأخيه العزيز، وكان شاعراً وله فضل، وفي هذا السياق ، يظهر الشاعر وكأنه يستعرض شخصيته بشكل بارز، في مواجهة الأوضاع التي عاشها، يحاول إخفاء الحسرة والألم الذي يختزنه في ذاته بسبب ما حدث ، يقف كمبرز لشخصيته، وكأنه يضع نفسه في مقارنة مع إخوته، ليُظهِر صلاحيته لتولي الحكم والخلافة ، ويسعى للحصول على حقه الذي حُرم منه ، في قياسه بينه وبين إخوته الذين قد لا يتمتعون بمميزاته وصفاته .   

شارك هذا الموضوع: