موقف الشاعر القرشي من المكان في العصر الاموي 
من المؤكد أن الغربة ليست خاصة بوقت أو مكان محدد ، وإنما ترتبط بطبيعة أوضاع المجتمع السياسية والاقتصادية والاجتماعية ، لذا فلا غرابة من أن يعاني الانسان في حياته من الغربة ، فهذا أمرٌ طبيعي ، فطبيعة بعض الناس تميل إلى الانتقال من مكان إلى آخر، ولاسيّما إنَّ الإنسان العربي ذو عاطفة قوية نظراً لما عُرف عنه من رقّة الإحساس فحين يقرر الابتعاد عن أهله ودياره يعمد إلى تصوير عاطفته ويعبرُ عنها شعراً ، وذلك لأنّ  الشعر انفعال نفسي ينفس به المرء عن نفسه () ، فيبدأ بتصوير ذلك الانفعال ، ويعكس هاجس الخوف وحالة القلق الشديد والألم والحسرة ، والضياع الذي اعتراه نتيجة ابتعاده عن بلاده ، فالغربة هي المصدر الأساس للاشتياق والحنين ولها الأثر البالغ في إظهار المشاعر والأحاسيس، فعن طريقها يبنى الشاعر معانيه ليخلق بعد ذلك عالمه، وهي بذلك تكون أداة فاعلة ووسيلة مهمة تحوّل الاشتياق والحنين من خطرات في الذهن إلى عالم تدركه الحسرات والمعاناة ، نجد ذلك في قول أبي دهبل الجمحي(ت63ه) قصيدة يقارن فيها بينه وبين الحمامة إذ يقول () : { من الطّويل }
أفى كل عام غُرْبةٌ ونُزُوحُ
ألا يا حَمامَ الأيْك الفُكَ حاضِر

 
أما للنَّوى من وَنْيةٍ فتُريحُ
وغُصْنُكَ مَيّادٌ ففيمَ تَنوحُ

        وكذلك نجد بعض شعراء قريش قد أثرت طبيعة المكان تأثيراً واضحاً في شعرهم فاتخذوا من اختلاف الأماكن وتغير رسومها وسيلة لإيقاد عواطفهم وأحاسيسهم ، ومن هؤلاء أبو قطيفة (ت 70ه) إذ يقول () :{ من الخفيف }
منزلٌ كُنتُ أشتهي أن أَراهُ
حالَ من دُونِ أَن أحُلَّ به النَّأ
وَتَبَدَّلْتُ مِنْ مَسَاكِنِ قَوْمِي


 
ما إليهِ لِمن بِحِمصٍ مَرَامُ!
ي وَصَرفُ الهَوَى وحَربٌ عَقَامُ
وَالْقُصُورِ الَّتِي بِهَا الْآطَامُ


ومن ذلك أيضاً قول عبد الله بن عامر بن كريز(ت58ه) إذ يقول () : { من الطّويل }
بكَى صَاحِبِي لَمَّا رَأَى الْفُلْكَ قَدْ مَضَتْ
وَحَنَّ إِلَى أَهْلِ الْمَدِينَةِ حَنَّهُ
فَقُلْتُ لَهُ لَا تَبْكِ عَيْنُكَ إِنَّمَا

 
تَهَادَى بِنَا فَوْقَ ذِي لُجَجٍ خُضْرِ
لِمِصْرٍ وَهَيْهَاتَ الْمَدِينَةُ مِنْ مِصْرِ
تَقَرُّ قَرَارًا مِنْ جَهَنَّمَ فِي الْبَحْرِ


ونرى أنّ شعر الغربة لا يتناسب وما مرّ عليها من حوادث باستثناء عصر ما قبل الإسلام حينما حوَّل قصي قريش إلى قبيلة مستقرة عامرة بعد أنْ كانت متفرقة في أطراف مكة ،وقال لهم (( أرى أن تصبحوا بأجمعكم في الحرم حول البيت فو الله لا تستحمل العرب قتالكم ولا يستطيعون إخراجكم منه وتسكنونه فتسودوا العرب ابدا)) ()  ففي هذا القول وضوح كامل لسياسة قصي وأهدافه البعيدة فإنّه يريد أن يجنب سياسة الحرب عن قريش من جهة ، والحفاظ على القيادة والتمسك بأمور الكعبة من جهة أخرى فهو يرغب في قيادة شبة الجزيرة العربية بأكملها بشكل جديد ومختلف، فهذه الأسباب تثبت لها الاستقرار وعدم التغرب عن الأوطان ، أما لو انتقلنا إلى عصر صدر الإسلام فالأمر مختلف فشعرهم كما قلنا لا يتناسب وما مرّ عليها من حوادث ووقائع تستدعي الغربة عن الأوطان والأهل والديار، وكانت هجرتهم من مكة إلى المدينة فراراً بدينهم من القضايا الكبرى التي تستدعي الحنين والشوق إلى الديار، إلاّ أننا لا نجد شعراً بحسب علمنا في شعر قريش سوى أبيات قليلة كأبيات عثمان بن مظعون ، فهذه الأحداث التي ذكرناها لم تلقِ صداها أيضاً عند الشعراء القرشيين في العصر الأموي ، إلاّ في شعر أبي قطيفة حينما يبدأ بالسؤال عن أحياء المدينة ومعالمها وما يلقى من الوحشة والهم في   منفاه ، ومن هنا كانت الغربة مؤثرة ولها بعد نفسي ، فالوقوف على ذكريات المكان علامة على استعادة تاريخ المكان.

شارك هذا الموضوع: