مقال من إعداد
م.م. أمير علي هادي
التخصص / علم الاجتماع
وزارة التعليم العالي والبحث العلمي
جامعة كربلاء – كلية التربية للعلوم الإنسانية/ قسم العلوم التربوية والنفسية
 
دور العائلة في تشكيل الهوية الاجتماعية في عصر العولمة: قراءة سوسيولوجية تحليلية موسعة
مقدمة
تعد العائلة من الركائز الأساسية في تشكيل الهوية الاجتماعية للأفراد، إذ تعتبر البيئة الأولية التي ينشأ فيها الفرد، ويكتسب خلالها العديد من القيم والمعتقدات التي تحدد هويته داخل مجتمعه. وفي عصر العولمة، الذي تتداخل فيه الثقافات والتقنيات والاقتصادات، باتت هذه الهوية أكثر تعقيدًا وتنوعًا، إذ تتأثر بتفاعل العوامل العالمية مع الهويات المحلية. العولمة لم تقتصر على مجرد تفاعل اقتصادي أو سياسي، بل شملت التداخل الثقافي الذي يعيد تشكيل هوية الأفراد بطرق غير مسبوقة. من خلال هذا السياق، تتعرض العائلة لتحديات جديدة تفرض عليها إيجاد أساليب جديدة للحفاظ على الهوية الاجتماعية في ظل التأثيرات الثقافية والاقتصادية المتزايدة. تهدف هذه الدراسة إلى تسليط الضوء على الدور الحيوي للعائلة في بناء الهوية الاجتماعية في هذا العصر المتغير، واستكشاف كيفية مواجهتها للتحديات التي تطرأ بسبب العولمة.
مفهوم الهوية الاجتماعية في السوسيولوجيا
الهوية الاجتماعية هي مفهوم سوسيو- نفسي يتناول كيف يعّرف الفرد نفسه داخل مجتمع معين، وكيف يربط ذاته بالآخرين في علاقات اجتماعية وثقافية متنوعة. في علم الاجتماع، يتم النظر إلى الهوية الاجتماعية باعتبارها مزيجًا من الانتماءات المتعددة التي تحدد علاقة الفرد بمحيطه، مثل الدين، العرق، الطبقة الاجتماعية، والجنس. هذه الهوية ليست ثابتة، بل تتغير وتتطور باستمرار نتيجة للظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية المحيطة. مع تدفق العولمة، أصبحت الهوية الاجتماعية أكثر تعددًا وتعقيدًا؛ فالأفراد الآن يعايشون ثقافات متعددة في وقت واحد، وهو ما يؤدي إلى تشكّل هويات هجينة تمزج بين عناصر محلية وعالمية، مما يزيد من مرونة الهوية ويتيح للفرد فرصة تكوين هوية اجتماعية متنوعة.
العائلة ككيان اجتماعي مؤثر في تشكيل الهوية
: العائلة تلعب دورًا مركزيًا في تشكيل الهوية الاجتماعية للفرد، فهي المؤسسة الأولى التي يكتسب فيها الفرد قيمه الأولية ومعتقداته الأساسية. وفقًا للنظريات السوسولوجية، تمثل العائلة وسيطًا هامًا في نقل الثقافة والقيم من جيل إلى آخر، مما يعزز من انسجام الأفراد داخل المجتمع. داخل العائلة، يتعلم الأفراد أدوارهم الاجتماعية، ويمارسون أنماط التواصل الاجتماعي التي تحدد تصوراتهم لذاتهم وللمجتمع. في المجتمعات التقليدية، كانت العائلة تشكل المصدر الأساسي للهوية الاجتماعية؛ حيث يتم تحديد الانتماءات العائلية والعرقية والدينية عبر الروابط الأسرية. أما في عصر العولمة، فإن التداخل مع قيم وعادات وثقافات أخرى يمكن أن يخلق تحديات في الحفاظ على الهوية الاجتماعية التقليدية.
تأثير العولمة على العائلة
العولمة لها تأثيرات عميقة على العائلة وعلى قيمها الثقافية والاجتماعية. هذه التأثيرات يمكن تلخيصها في عدة مظاهر رئيسية:
  1. التكنولوجيا ووسائل الإعلام: من خلال الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، تتسارع وتيرة التواصل بين الأفراد من مختلف الثقافات، مما يعزز التفاعل بين الهويات الثقافية المختلفة. بينما يمكن أن يوسع هذا الأفق المعرفي، فإنه أيضًا قد يؤدي إلى تقليل تماسك بعض القيم الأسرية التقليدية، مثل احترام السلطة الوالدية والتمسك بالعادات المحلية.
  2. الاقتصاد والهجرة: التغيرات الاقتصادية الناجمة عن العولمة تساهم في زيادة حركة الهجرة، مما يؤدي إلى تأثيرات على هوية الأفراد الذين ينتقلون من بيئات ثقافية محلية إلى مجتمعات جديدة. المهاجرون، الذين يواجهون تحديات في التكيف مع ثقافات غريبة، قد يجدون أنفسهم في موقف صعب يحتم عليهم التفاوض بين هويتهم الثقافية الأصلية وهويتهم المستحدثة في المجتمع الجديد. التغيرات في نمط الحياة، مثل العمل عن بُعد، تؤثر أيضًا على ديناميكيات العائلة وتفاعلاتها.
  3. الانفتاح الثقافي: من خلال العولمة، تنتشر الثقافة الغربية بشكل واسع، مما يؤثر على القيم والتقاليد الأسرية. الأفراد في العديد من البلدان يواجهون تأثيرات ثقافية قد تؤدي إلى تبني بعض العادات الغربية، ما يخلق صراعًا داخليًا بين الحفاظ على الهوية الثقافية المحلية والانفتاح على قيم العولمة.
التحديات التي تواجه العائلة في عصر العولمة
 العائلة تواجه في عصر العولمة مجموعة من التحديات التي قد تؤثر على قدرتها على تشكيل الهوية الاجتماعية للأفراد:
  1. الاغتراب الثقافي: نتيجة لتأثيرات العولمة، قد يعاني الأفراد من حالة من الاغتراب الثقافي، حيث يشعرون بالانفصال عن ثقافتهم الأصلية. هذا الاغتراب يؤدي إلى عدم التوازن في الهوية الاجتماعية ويؤثر على العلاقات الأسرية عندما لا يجد الأفراد أنفسهم قادرين على التوفيق بين القيم الثقافية المحلية والعالمية.
  2. التغيرات في بنية العائلة: العولمة تؤدي إلى تغييرات في بنية العائلة، مثل تحول الأسر إلى وحدات أسرية أصغر بسبب الهجرة أو الضغوط الاقتصادية. كما يمكن أن تتزايد معدلات الطلاق والانفصال نتيجة للتحديات الاقتصادية والاجتماعية التي تعترض العائلات، مما يؤثر على استقرار العائلة كمؤسسة اجتماعية.
  3. التوتر بين القيم التقليدية والعصرية: العولمة تخلق صراعًا بين الحفاظ على القيم التقليدية التي نشأ عليها الأفراد داخل أسرهم وبين الانفتاح على القيم العصرية التي تروج لها وسائل الإعلام والتكنولوجيا. هذا التوتر قد يؤدي إلى تآكل بعض القيم الثقافية والهوية الاجتماعية للأفراد، حيث يصبحون عرضة للاختيار بين هويتهم الأصلية والهوية الجديدة المستحدثة.
العائلة والهوية الثقافية في عصر العولمة
 العائلة تظل نقطة مرجعية أساسية في الحفاظ على الهوية الثقافية للأفراد في ظل العولمة. من خلال نقل القيم الثقافية والتعليم داخل الأسرة، تستطيع العائلات تعزيز الهوية الثقافية للأفراد حتى في ظل الضغوط الثقافية العالمية. يمكن للعائلة أن تشكل ملاذًا آمنًا للحفاظ على العادات والتقاليد الثقافية المحلية، رغم تأثيرات العولمة. وبالتالي، من خلال تقوية الروابط العائلية وتعزيز القيم المحلية، يمكن أن تكون العائلة عاملاً مهمًا في بناء هوية اجتماعية متوازنة تسمح للأفراد بالتفاعل مع الثقافات العالمية دون أن تفقد هويتهم الثقافية الأصلية.
دور العائلة في المجتمعات متعددة الثقافات
 في المجتمعات متعددة الثقافات، تتضاعف أهمية دور العائلة في تعزيز الهوية الاجتماعية. في هذه المجتمعات، تساهم العائلة في تعليم الأفراد كيفية التفاعل مع ثقافات مختلفة، مما يساعد على تعزيز التفاهم والقبول المتبادل بين الثقافات المتنوعة. كما تساعد العائلة الأفراد على الحفاظ على هوية اجتماعية متكاملة، دون أن تتعرض هذه الهوية للتمزق بسبب التنوع الثقافي المحيط.
خاتمة
 في مواجهة تحديات العولمة، يظل دور العائلة في تشكيل الهوية الاجتماعية للأفراد بالغ الأهمية. العائلة ليست فقط قناة لنقل القيم، بل هي أيضًا مصدر قوة لتثبيت الهوية الثقافية والاجتماعية في وجه التأثيرات الخارجية. من خلال التوجيه الصحيح والتعليم داخل الأسرة، يمكن أن تساعد العائلة الأفراد على الحفاظ على توازن بين الهوية الثقافية المحلية والانفتاح على العالم الخارجي، مما يعزز من قدرة الفرد على التكيف مع التغيرات المستمرة في ظل العولمة.
المصادر
أمين، محمد فتحي عبد الفتاح ( 2007 . ( احتياجات الإنسان المتصاعدة، مجلة الكويت الجامعة، تصدر عـن
وزارة الأعلام الكويتية .
 باظة، امال عبد السميع (2003 :(الصحة النفسية والعلاج النفسي، دار عسكر للطباعة، القاهرة، مصر.
 برافين ،اورانس 0ا0)2010 :( علم الشخصيه، الجزء الاول ، ترجمة عبد الحليم محمود السيد واخرون ،ط
الاولى ،المركز القومي للترجمه ، القاهره ، مصر .
 التميمي، بشرى عناد مبـارك (2013 :(التعصـب وعلاقتـه بالهويـة الاجتماعيـة والمكانـة الاجتماعيـة لـدى
العاطلين عن العمل، مجلة الفتح، العدد 53.ص7
 جابر، جودت بني ( 2004 .( علم النفس الاجتماعي، مكتبة دار الثقافة للنشر والتوزيع، عمان، الأردن .
 جبــر، لــؤي خزعــل (2008 :(الهويــة الوطنيــة العراقيــة، دراســة ميدانيــة، المركــز العراقــي للمعلومــات
والدراسات، ط1 ،بيت الحكمة، بغداد.

شارك هذا الموضوع: