البعد النفسي للسخرية
أ.د.فهد نعيمة البيضاني
 
لقد مثَّل الشعر الساخر بصوره النقدية عنصراً تطهيرياً على جانبين ، فهو يطهر المجتمع من العيوب والصفات الخلقية البغيضة من جانب ، ويعمل على إسعاد المعدمين بصوره ورسومه الساخرة من جانب آخر ، إذ إنَّ مجالس اللهو كانت تقبل على هذا اللون وتساعد على نشره . 
وإذا ما نظرنا إلى هذا الفن الشعري وجدناه أصدق وأجرأ من قصائد المديح ، تلك التي تظهر الصفات الحميدة وتبالغ فيها ، بيد أنَّ الشاعر الساخر يصور لنا ما ينبغي أن يتحلى به المجتمع من فضائل ، ويتجنَّب الرذائل ، منها داء البخل ، فقد اتجهت إليه عيون الشعراء ، وتفاعلت معه أحاسيسهم ، فوقفوا يرسمون تلك الصور الساخرة ، وهنا يلعب الخيال أو التخييل دوراً مهماً في خلق تجارب ، تشاكل التجارب الواقعية في الحياة ، كما يعين على فهم وتتميم كل تجربة ، لا نراها تامة كاملة في دنيا الواقع . 
وهنا تطالعنا أبيات الشاعر أبي الخطاب البهدلي التي صاغها في تصوير إنسان بخيل من خلال رسم صورة لخروف كان قد أهداه للشاعر ، فقال ساخراً : 
 
أهدى إلينا معمر خروفـــا كان زماناً عنده مكتوفــــــا
يعلفه الكستج والسفوفـــا         والفارقون بعده مدوفـــــــا
حتى إذا ما صار مستجيفــا         أهدى فأهدى قصباً ملفوفـــــا
جلل جلداً فوقه وصوفـــا         وكان من فعاله موصوفــــا
 
لقد أراد الشاعر تعرية هذا الخروف من صفة كونه خروفاً ، وألصق به صفة أخرى ( قصباً ملفوفا ) و ( جلل جلداً فوقه وصوفا )  ؛ إذ إنه نقل تصور المتلقي من حال إلى حال أخرى ، وما هذا إلا تعبير عن بخل صاحب الخروف ، لقد كان البخل ظاهرة شائعة في عصره ، ويبدو أنها أثر من آثار ازدهار الحياة الاقتصادية وتكالب الناس على الأموال وتهرّب الطبقة القادرة عن الدفع لمن هو في حاجة .
لقد تناول الشعراء الساخرون كل ما يحط من منزلة المرء ، واستمدوا معانيهم مما ساد بين الناس ، وتعارفوا عليه على أنه من الرذائل والعيوب ، لذا فقد كان هذا اللون من الشعر يمثل الصحيفة التربوية للمجتمع ، ومما أخذ عن البخلاء شحهم بالخبز ، فترى أبا نواس يهاجم الشاعر الفضل الرقاشي ( ت قبل 207هـ) ساخراً : 
 
رأيت الفضل مكتئبـــا يناغي الخبز والسمكــا
فقطّب حين أبصرنــي ونكس رأسه وبكـــى
فلما أن حلفت لــــه بأني صائم ضحكـا
 
وقوله في إسماعيل بن أبي سهل بن نوبخت متخذاً من وصف خبزه منفذاً لرسم صورة ساخرة : 
 
على خبز إسماعيل واقية البخــل فقد حل في دار الأمان من الأكــل
وما خبزه إلاّ كعنقاء مغـــرب تصور في بسطك الملوم وفي المثل 

شارك هذا الموضوع: