مقالة بعنوان : ( القِيَاس في مَجْمَعِ اللُّغة العَرَبِيَّة في القاهرة )
بقلم : م.م. هبه علي مسلم /
كلية التربية للعلوم الانسانية /
قسم اللغة العربية .
اتَّجَهَ المُصْلِحُون في العصر الحديث إلى النهوض بهذه اللُّغة ، وتنمية ألفاظِها ، لذا أُسّست المَجَامِع اللُّغَوية في البِلاد العَرَبِيَّة ،ومنها مَجْمَع دمشق ، ومَجْمَع القاهرة ومَجْمَع بغداد ، وكُلّها تهدف إلى النهوض باللُّغة العَرَبِيَّة()، وكانت مَهمَّة هذه المَجَامِع هي مراقبة حركة تطور اللُّغة فتقرّ ما صلح ، وتصلح ما فسد ، فَضلا عن أنَّ التطور العِلمِي والحَضَارِي والثَّقافِي والصِّنَاعِي والسِّياسِي يتطلب استحداث ألفاظ وإحياء كَلِمَات، لذا كانت مُهِمَّة المَجَامِع تنسيق هذه الألفاظ و حفظ المُسْتَحْدَث منها ، ومحاولة إيجاد كَلِمَات جديدة تعبِّر عن المعاني الناشئة، وغايتها الملائمة بين الماضي والحاضر وتوفق بين هذين الطرفين تستبقي من القديم أنْفـَسَه و أسْلَسَه ، وتتقبل من الجديد أدقَّه و أحكمه ولابد لها أن تلم إلمامًا واعيًا بالثروة اللُّغَوية ، وتحيط إحاطة تامة بالتطورات الفكرية والمُسْتَحدَثَات اللَّفظية ، فتتخير من هذا وذاك الأنسب والأصلح ، والسر كُلّ السر في هذا الاختيار. ومن هذه المَجَامِع اللُّغَوية مَجْمَع اللُّغة العَرَبِيَّة في القاهرة الَّذي اتَّجه منذ إنشائه إلى قضية القِيَاس اللُّغَوي ، ورأى أن التنمية الحقيقية لألفاظ اللُّغة إنما تكون بوساطة هذا القِيَاس غير أنّه بدأ تفكيره في القِيَاس على حذر ، أي لم يندفع في أول الأمر إلى الأخذ بالقِيَاس بالمعنى الذي أراده أبو علي الفارسي في كُلّ ما يعنُّ لأعضائِهِ()، فلم يحاول القِيَاس في الدّلالات ولا في التراكيب ، وحين دعا بعض أعضائه إلى القِيَاس في التراكيب سُئِلُوا عن الجدوى من هذا الأمر وهل يتوقع استحداث تراكيب جديدة في العَرَبِيَّة يمكن أن تقع في كَلام المُحْدَثِين وليس لها نظائر بين العرب القدماء ، وأجيب عن هذا التساؤل بالقول: إنَّ المَجْمَع اكْتفى بالقِيَاس لاستنباط الصيغ أو الكَلِمَات الجديدة في صيغ قديمة ، ويرى الدكتور إبراهيم أنيس (عضو المَجْمَع) أنَّ المَجْمَع يقنع الآَن في قضية القِيَاس باستنباط الألفاظ الجديدة ،ويؤسس قِيَاسهُ على دعائم ثلاث():
1-أَقوال العلماء من القدماء ازاء الظاهرة اللُّغَوية : فإذا وجد المَجْمَع منفذًا ولو ضعيفًا عن هذا الطريق استغله.
2-القيام بإحصاء الأمثلة المروية لهذه الظاهرة من المَعَاجِم المطولة. وتقوم هذه الدعامة على إعادة الاستقراء أي لا يعتمد على أقوال القدماء من العلماء وحدها ، بل القيام بالاستقراء بأنفسنا ، ولدينا لحسن الحظ من النصوص ما يكفي بل وفوق ما يكفي ، فإنّ مسلك القدماء تقعيد القواعد كان على أساس ما يسمى بالقِيَاس الاستقرائي ذلك أن للقِيَاس لدى المناطقة معنيين ، أحدهما ما يسمى بالقِيَاس الاستنباطي ، وهو قِيَاس أرسطو وفيه يكون الانتقال من الكُلّي إلى الجزئي ، والآخر ما يسمى بالقِيَاس الاستقرائي وفيه يكون الانتقال من الجزئيات إلى الكُلّيات، وهو الأصلح لتقعيد القواعد ، بل الأصلح في الدراسات العلمية الحديثة إذ يعتمد على التجربة والملاحظة في جزئيات المسألة الواحدة لينتهي من هذه الجزئيات إلى كُلِّيةٍ عَامَّةٍ.
3-موقف جمهور أبناء العرب في العصر الحديث من هذه الظاهرة، وتقوم هذه الدعامة التي يستأنس بها المَجْمَع في قِيَاسه على موقف جمهور الناس من أبناء العرب في العصر الحديث إزاء الصيغة أو الكَلِمَة الجديدة من حيث أننا نشأنا نستمع إلى ألفاظ اللُّغة وصيغها وتراكيبها وأصواتها ، وترك هذا في عقولنا ونفوسنا ما يمكن أن يُسمّى بالحس اللُّغَوي ، وهذا الحس اللُّغَوي هو الذي يهدينا أحيانا إلى استنباط أمور جديدة لم ترد في المَعَاجِم أي أن المَجْمَع يحاول جاهدًا أن يصدم الناس في حسهم اللُّغَوي فإذا وجدهم يأنسون صيغة جديدة أو كَلِمَة جديدة في صيغة قديمة ساعد المَجْمَع على إقرارها.
وقد أولى مَجْمَعُ اللُّغة العَرَبِيَّة في القاهرة –منذ إنشائه حتى يومنا هذا –عناية كبيرةً بالقِيَاس اللُّغَوي ، إذ كانت أغلب قراراته – سواء أكانت صرفيَّةً أم نحويَّةً – في هذا الباب ، واتجه إلى زيادة ثروة اللُّغة ، وتطويعها لمطالب الحياة العَرَبِيَّة الحديثة في علومها وفنونها وشؤون معيشتها اليومية ، وإغنائها ما أمكن – عن الاستعانة بالدخيل : وذلك بالتوسع في صيغها ، والأخذ بمبدأ القِيَاس في اشتقاقاتها() ، استنادًا إلى ما قرره بعض الأقدمين من كبار علماء العَرَبِيَّة من أنّ« ما قيس على الوارد الكثير من كَلام العرب فهو من كَلام العرب »() ، وكان ذلك في سبيل التغلب على العقبات التي كانت تعترض سبيل العاملين على إيجاد أسماء عربية للمسميات الحديثة ، ومن بين تلك العقبات الخلاف بين العلماء في القِيَاسي والسَّمَاعي من المشتقات و المصادر ، لذلك رأى المَجْمَع ضرورة البت في هذه الناحية ، وإجازة القِيَاس فيها ، قبل الشروع في وضع مصطلحات العلوم وأسماء الآلات والأدوات الحديثة وأسماء الحرف والصناعات التي لم تكن تعَرَّفَهُا العرب ولا الدول الإسلامية الأَوّلى ، أو عرفتها ولم يضع علماؤها أسماء فكان من ذلك القرارات الخاصة بقِيَاسِيَّة بعض الصيغ() : مثل مصدر فِعَالة (بكسر الفاء) –من فَعَل اللازم المفتوح العين – للدّلالَة على الحرفة وشبهها() . وصيغة فُعَال (بضم الفاء) – من فَعَل اللازم المفتوح العين – للدّلالَة على المرض ، وغيرهما مما جاء في القرارات ، وقد أوضح الاحتجاج لهذا القِيَاس أنّ ما قرر في هذه الصيغ وأمثالها يوسع أبواب الوضع اللُّغَوي ، ويعين اللُّغة على الاستجابة الناجحة لمطالب العلم والحياة الحديثة .
وقد حرص المَجْمَع على أن تكون اللُّغة العَرَبِيَّة لغة العلم والثقافة قريبة من العامة والخاصة ، وافية بحاجات أهل العلم واللُّغة والأدب ، تواكب الحياة العصرية المتطورة ، وتلائم بينها وبين القديم ، وقد سلك المَجْمَع سبيلين للوصول إلى هذا الهدف() :
السبيل الأَوّل : أنه وضع ألفاظًا وأسماء لمُسَمَّيات أنتجتها الحضارة الجديدة ، أو اصطلح عليها أهل علم ما ، وَوَحَّد الكَلِمَات العَرَبِيَّة التي يحتاج إليها العالم و المتعلم في هذا الوقت كثيرًا، وجمع كُلّ ذلك في مُعْجَمات كالمُعْجَم الوجيز، والمُعْجَم الوسيط، والمُعْجَم الكبير، ومُعْجَم ألفاظ القُرآن الكريم، ومُعْجَم للمصطلحات الطبية والهندسية والكيميائية وغيرها، فقد كان لمَجْمَع اللُّغة العَرَبِيَّة بالقاهرة شأن كبير في نهضة المُصْطَلَحَات العَرَبِيَّة المعاصرة وما يزالُ كذلك ، إذ إنَّ من أهم أغراضه «أن يجعل اللُّغة وافيه بمطالب العلوم والفنون»()، وقد شغَل بذلك منذ قِيامه مُحاولاً إحياء المصطلح القديم إن كان ثمة سبيل إلى إحيائه ، أو البحث عن مصطلح جديد ، وحرص على أن يتأنّى في الدرس و المراجعة فيعرض للمصطلح في لجانه ، ثم في مجلسه ومؤتمره ، ولا يتردد في أن يعيد النظر فيه إن دَعا الأمر ، مؤمنًا بأنّ مُهمّته الأَوّلى أن يسجِّل ما اصطلح عليه المختصون ما دام لا يتعارض مع أصل من أصول اللُّغة ، ويدعو إلى جمع المُصْطَلَحَات العَرَبِيَّة القديمة ، وإن كان يرى أَنّها أصبحت لا تفي بالحاجة ولا يتردد في أن يُعَرِّب كما كان القدماء يُعَرِّبون ، فأخذ عن اليونانية و الهندية ، والسريانية والعبرية ، والفارسية والتركية ، فضلًا عن قيامِه بالتَّعريب حديثًا عن الإسبانيَّة والإيطاليَّة ، والانكلِيزية والفَرنسية والعامية في قسط كبير منها فصيحة الأصل ولا ضير أن نستعين بها في صوغ المصطلح الجديد ، وتوسع أيضًا في الاشتقاق والقِيَاس ، فأجاز مثلا الاشتقاق من أسماء الأعيان والجواهر ، فيُقَال مُكَهْرَب ومُمَغْنَط من الكهرباء والمُغْنَاطِيس ، وحاول أن يقيس أوزانًا فيما لم يُقَل بالقِيَاس فيه لأداء دلالات خاصة ، كالحرفة والداء والصوت . والمَجْمَعُ بهذا استطاع أن يقرَّ الآلافَ من المُصْطَلَحَات في العلوم المختلفة ، وأخرج منها كراسات ومجموعات متلاحقة وفي هذه المجموعات التي تبلغ ستة عشر الفًا من المُصْطَلَحَات الموزعة بين مختلف العلوم والفنون عونًا للدارسين والباحثين وفيها نواة صالحة للمُعْجَمات العلمية المتخصصة() .
السبيل الثاني : إصداره قرارات تتعلق بالقواعد والضوابط الحافظة للُّغة العَرَبِيَّة ، فأقرّ شيئًا مما كان ممنوعًا منه ، وتحقق من شروط كانت تقيد المسألة ، وفتح أبوابًا من القِيَاس كانت مؤصدة ، ويمكن القول: إنَّ المَجْمَع قد وضع أُسسًا سار عليها في وضع قراراتِهِ سواءٌ أكانت صرفيَّة أم نحوية وهذه الأُسس هي():
أوّلاً: الاعتداد بالقليل من المَسمُوع .
ثانيًا: الاعتماد على القِيَاس كثيرًا.
ثالثًا: اختيار الرأي الأسهل في المسألة.
رابعًا: مُرَاعاة حاجة الكتاب والمُتَكَلّمين والمُترجمين وواضعي المُصْطَلَحَات.
المصادر والمراجع :-
() يُنْظَر: من أسرار اللُّغَة، إبراهيم أنيس.
(2) يُنْظَر: المَجَامِع العَرَبِيَّة وقضايا اللُّغَة من النَّشأة إلى أواخر القرن العشرين، د. وفاء كامل فايد.
(3) يُنْظَر: بحوث وباحِثون، د. إبراهيم مدكور.
(4) يُنْظَر: مَجْمَع اللُّغَة العَرَبِيَّة في ثلاثين عامًا(مجموعة القرارات العلمية)، من تاريخ النحو العربي، د. مجدي محمد حسين العيد الماسي لمَجْمَع اللُّغَة العَرَبِيَّة بالقاهرة.
(5) الخصائص: ابن جني.
(6) يُنْظَر: مَجْمَع اللُّغَة العَرَبِيَّة في ثلاثين عامًا( مجموعة القرارات العلمية)، قرار المَجْمَع: “يُصَاغ للدّلالة على الحِرفةِ أو شبهها من أي باب من أبواب الثُّلاثي مصدر على وزن (فِعَالَة) بالكسر”.
(7) المصدر نفسه، قرار المَجْمَع: ” يُقاس من فَعَلَ اللازِم مفتوح العين مصدر على وزن فُعَال للدَّلالَة على المرض” .
(8) يُنْظَر: القرارات النحوية والتّصريفيَّة لمَجْمَع اللُّغَة العَرَبِيَّة بالقاهرة، خالد بن سعود بن فارس العصيمي.
(9) مَجْمَع اللُّغَة العَرَبِيَّة في ثلاثين عامًا(مجموعة القرارات العلمية).
(10) يُنْظَر: بحوث وباحثون، بحث بعنوان “المصطلحات العلمية المعاصرة”، والمجامع العَرَبِيَّة وقضايا اللُّغَة، د. وفاء كامل فايد، والعيد الماسي لمَجْمَع اللُّغَة العَرَبِيَّة بالقاهرة، بعنوان(اللُّغَة العَرَبِيَّة والثقافة الإنسانية المعاصرة) : د. نيقولا دوبريشان (عضو المَجْمَع المراسل من رومانيا).
(1) للوقوف بالتفصيل على هذه الأسس وحيثياتها ينظر: القرارات النحوية والتصريفية لمَجْمَع اللُّغَة العَرَبِيَّة بالقاهرة.