التشكيل الصوتي في اللفظة المفردة (دراسة لآراء البلاغيين العرب )
تحدث ابن الأثير (ت 637هـ) في الأثر الذي تتركه الألفاظ المنتقاة عند بناء النص بقوله: ((الألفاظ داخلة في حيز الأصوات، لانها مركبة من مخارج الحروف، فما استلذه السمع منها فهو الحسن، وما كرهه ونبا عنه فهو القبيح)) .فأشار إلى وجوب الدقة في اختيارها حين قال: ((اختيار الالفاظ المفردة: وحكم ذلك حكم اللالئ المبددة، فإنها تتخير وتنتقى قبل النظم)).و يوجه ابن الأثير عناية المبدع إلى تنسيق المكونات الاساسية للنص، فأوجب عليه عند بناء النص اختيار الألفاظ بشكل منظم وترتيبها داخل بناء النص مثلما يرتب الصائغ حبات اللؤلؤ في السلك. ويعد اللفظ المبرز الأول للمعنى عند بناء النص ف((المعاني هي الصور الحاصلة في الأذهان عن الأشياء الموجودة في الأعيان. فكل شيء له وجود خارج الذهن فانه إذا أدرك حصلت له صورة في الذهن تطابق لما أدرك منه. فإذا عبر عن تلك الصورة الذهنية الحاصلة عن الإدراك أقام اللفظ المعبر به هيئة تلك الصورة الذهنية في إفهام السامعين وأذهانهم للمعنى فصار وجود آخر من جهة دلالة الالفاظ))  ،فاللفظ هو ترجمة لما يدور في ذهن المبدع من افكار واراء، فاذا اراد ايصالها إلى المتلقي استعان به وكان وسيلته في التعبير لذلك عُني البلاغيون به عند بناء النص ووضعوا معايير لحسن اختياره. فاوجب فخر الدين الرازي في تركيب اللفظة ((أن تكون متوسطة، في قلة الحروف وكثرتها، فاما الحرف الواحد فليس بمفيد اصلا، واما المركبة من حرفين فليست ايضا في غاية العذوبة. بل البالغ فيها الثلاثيات، لاشتمالها على المبدأ والوسط والنهاية. والسبب فيه ان الصوت تابع للحركة، والحركة لابد لها من هذه الامور. فمتى كانت هذه المراتب اتم ظهورا في الحركة كان الكلام أسهل جريانا على اللسان. وأما الرباعيات والخماسيات فلا يخفى ثقلها. والسبب فيه زيادتها على الدرجات الثلاث التي يتعلق بها كمال الصوت))  .
وأوجب ((الاعتدال في حركات الكلمة. فاذا توالت خمس حركات كان ذلك في غاية الخروج عن الوزن. ولذلك كان الشعر لا يحتملها. وأما اربع حركات فإنّها في غاية الثقل أيضاً، بل المفيد توالي حركتين يعقبهما سكون، أو ان كان لابد فتوالي ثلاث حركات))  . ويفضّل البلاغيون اللفظة الثلاثية عند بناء النص، لاشتمالها على مبدأ ووسط ونهاية، وكل قسم تبرزه حركة معينة يسهل النطق بها، واكدوا خفة الحركات وشددوا على المبدع الاعتدال في بناء الكلمة واخرجوا اللفظ الثقيل ( الكثير الأحرف والحركات ) من قائمة الألفاظ المعدة لبناء النص فـ (( استثقلت الضمة على الواو، والكسرة على الياء،لان الضمة من جنس الواو،والكسرة من جنس الياء، فتكون عند ذلك كانها حركتان ثقيلتان )) إنّ لجرس الألفاظ قيمة جوهرية في بنائها اللغوي، فهو اداة التاثير في المتلقي بما يوحيه من اتساق الالفاظ المفردة وتوافقها مع غيرها من الألفاظ داخل بناء النص وما يحدثه جرسها من شعور بالطرب طرب الانسان باللحن الموسيقي ،وقال ابن الأثير في ذلك ((ومن له ادنى بصيرة يعلم ان للالفاظ في الاذن نغمة لذيذة كنغمة اوتار، وصوتا منكرا كصوت حمار، وان لها في الفم ايضا حلاوة كحلاوة العسل، ومرارة كمرارة الحنظل، وهي على ذلك تجري مجرى النغمات والطعوم )) ، فللفظ دور في اثارة انفعالات النفس شأنه شأن الألحان الموسيقية وأنواع الأطعمة، فاللفظ داخل بناء النص يؤدي(( دوراً هاماً في أثارة الانفعال المناسب فالإيقاع الداخلي للألفاظ، والجو الموسيقي الذي يحدثه عند النطق بها، يعتبر من اهم المنبهات المثيرة للانفعالات الخاصة المناسبة، كما أنّ له إيحاءً نفسياً خاصاً لدى مخيلة المتلقي والمتكلم على السواء )). ويسوغ استعمال اللفظ المستعذب – وان كان معناه غير معروف- في رأي حازم (ت 684هـ) عند بناء النص ففي ذلك قال: ((اللفظ المستعذب وان كان لا يعرفه جميع الجمهور مستحسن إيراده في الشعر لانه مع استعذابه قد يفسر معناه، لمن لا يفهمه، ما يتصل به من سائر العبارة. وان لم يكن في الكلام ما يفسره لم يعوز ايضا وجدان مفسره لكونه مما يعرفه خاصة الجمهور أو كثير منهم. والاتيان بما يعرف احسن))  ،أجاز حازم استعمال اللفظ وان كان معناه غامضاً عند بناء النص الشعري لان عذوبة اللفظ تغني عن وضوحه فانتظام الألفاظ داخل النص والارتباط الوثيق بين عناصره يسهم في اظهار المعنى أما معنى اللفظ فانه يُفسّر بما قبله وبعده لأنّ لما قبل اللفظ وما بعده اثراً في فهم معناه وجلاء المقصود منه. أما ما يخص الحروف الداخلة في تركيب اللفظة عند بناء النص فاختار البلاغيون العين والقاف فانهما لا يدخلان بناءً الا حسّناه لأنّ العين انصع الحروف جرساً والذُّها على السمع والقاف امتن واصح الحروف جرساً  ، فـ ((واضع اللغة لم يضع عليها الفاظاً تعذب في الفم، ولا تلذ في السمع، والذي هو بهذه الصفة منها فانما هو قليل جدا، ولا يصاغ منه الا مقاطيع أبيات من الشعر، واما القصائد المقصدة فلا تصاغ منه، وان صيغت جاء أكثرها بشعا كريها)) ، وتتفاوت كراهية تلك الحروف الداخلة في بناء النص ((واشدها كراهية اربعة احرف، وهي: الخاء، والصاد، والظاء، والغين، وأما الثاء، والذال، والشين، والطاء، فإن الامر فيهن اقرب حالا)) التفت ابن الأثير إلى مسألة التكلف وعدّها من عيوب بناء النص لذلك أوجب على المبدع الابتعاد عن تضييق نصه بحروف تثقل كاهله لأنّ النص الشعري يبنى من ابياتٍ كثيرةٍ وتردد تلك الاحرف يهبط بالنص إلى أدنى مستويات الفصاحة لأنّها من((مقاتل الفصاحة))
  
 

شارك هذا الموضوع: