وضع البلاغيون نظاماً لبناء النص على الشكل الذي يسهم في ترتيبه وتنظيمه, فوضعوا أمام المبدع مجموعة من الشروط والإجراءات من أجل تحسين بدايات النصوص, وتوزعت تلك الشروط على النحو الآتي:
الأخذ من القرآن الكريم
حثّ البلاغيون المبدعين على افتتاح النص بمفاتح السور أو النسج على منوالها, فالقرآن الكريم حافل بأنواع الدلالات والإيحاءات, وجعلوا من مهمة المبدع الاختيار منها وتوظيفها لبناء النص.
فقد وضع ابن الأثير أمام المبدع مثالاً يحتذى في الابتداء, وهي الابتداءات الواردة في القرآن الكريم, فذكر بأن القرآن الكريم وردت فيه أمثلة لأحسن الابتداءات كالتحميدات والنداء, التي توقظ السامعين وتنبههم للإصغاء وللانتباه ، ومثّل لذلك بقوله تعالى: ((يآءٍيها الناس اتقوا ربّكم الذي خلقكم من نفسٍ واحدةٍ)), ويشير إلى أن الأخذ من الابتداءات في القرآن الكريم المتمثلة بالحروف كقوله تعالى (ألم وطس وحم) ((يبعث الاستماع إليه, لأنه يقرع السمع شيء غريب ليس له بمثله عادة, فيكون سببا للتطلع نحوه والإصغاء إليه)).
إنّ محور ما ذهب إليه ابن الأثير هو الجدة ومباغتة المتلقي بما ليس معتاداً عليه بما يعطيه القدرة على امتلاك القارئ والسيطرة عليه وقيادته نحو الإصغاء للنص فنظر إلى بدايات السور القرآنية وما فيها من الإعجاز والبلاغة في اشتمالها على تأدية المعاني الكثيرة بألفاظ قليلة وإصابتها للغرض.
وذهب ابن مالك مذهب ابن الأثير بأهمية الأخذ بفواتح السور القرآنية حين قال: ((وإذا نظرت إلى فواتح السور جملها ومفرداتها رأيت من البلاغة والتفنن وأنواع الإشارة ما يقصد عن كنه وصفه العبارة)) إن أهم ما يميز بدايات النص القرآني لتكون مثالاً يحتذى مناسبة مفاتح السور تمام المناسبة لموضوعها فقد تثير بداية النص القرآني الهول والخوف- وقد تثير الاطمئنان والسكينة في النفس بحسب الموضوع الأساس وقيامها على التنوع بين أسلوب نداء أو دعاء أو حروف مقطعة مما يرفع الملل والرتابة من نفس المتلقي, فضلا عن ما تمتاز به من قوة اللفظ وجمال المعنى وجودة السبك فآيات القرآن الكريم تكفي كل من يريد أن ينشأ نصاً بليغاً.
ملاءمة بداية النص لموضوعه:
أكد البلاغيون ضرورة أن تكون بداية النص ملائمة للمعنى العام للنص وهم بذلك ركزوا على ((المؤلف والمعنى الذي يقصده داخل النص بوصفه مركزاً للعملية الإبداعية)) فحرص ابن الأثير على ملاءمة الابتداء للموضوع الأساس للنص, مشدداً على العلاقة الوطيدة بين المطلع والغرض, فإن كان الموضوع في المدح الخالص فعلى المبدع أن يبتدئ النص بالمدح فلا يفتتحه بالغزل, والمبدع مخير بذلك.
إنّ في مسألة اختيار البدايات عند ابن الأثير فسحة تتيح للمنتج تقدير المقام الذي ينتج فيه النص بمعنى أن ما يقال عما يستحسن ذكره في البدايات ليس أمراً واجباً وإنما يترك الاختيار للمبدع على أنْ يعرف أنّ ثمة معاني وألفاظاً لا تلائم أغراضاً معينة ويضع ابن الأثير قواعد لبناء النص واختيار مقدماته بحسب الموضوع الأساس فمثلا في وصف الحروب ومتعلقاتها يحذر ابن الأثير المبدع من افتتاح النص بالغزل إن كان موضوعه الأساس في وصف الحرب وما يتعلق بها من وقائع وبطولات لأن الغزل رقة محضة وألفاظ البطولات من متين القول فلا تتلاءم ألفاظ الغزل مع وقائع الحروب كما أن الأسماع تكون في تلك الأمور متشوقة إلى سماع ما يقال فيها فلا يجوز ابتداؤها بالغزل.
يتحدث المبدع مع المتلقي من خلال النص فيجب عليه أن يحسن اختياراته ولا سيما في بداية النص, فيجعل الابتداء رقيقاً عذبا في الغزل, وقوياً فخماً في الحروب والبطولات, فيجب أن تكون مقدمة النص مناسبة للمقام لجذب السامع للنص والإصغاء إليه ومعرفة ما بعدها.