الدولة الرستمية الإباضية في بلاد المغرب الاوسط
“التدهور والسقوط”
م.د. مروه مكي جعفر كلية التربية للعولم الانسانية/ قسم التاريخ
     بدأت بوادر الضعف تدب في الدولة الرستمية بعد أن تسلم منصب الامامة ابو بكر بن أفلح (258-261ه/871-874م) ، الذي اختير باجتماع اهل الحل والعقد من نفوسة وغيرها، إلا ان عامة الناس رفضوا هذه البيعة واعتبروها تفرداً من نفوسة في اختيار الإمام، وفضلاً عن سيرة  ابي بكر الذي كان ميالاً للدعة والرخاء وتسليم أمور الحكم إلى صهره محمد بن عرفة أثارت ضغائن عامة القبائل ضده.
    وكان ابن عرفة ذا علاقات جيدة مع الجند والعرب، مما اثار التنافس بين القبائل، وفي خضم الصراعات بين القبائل والإمامة الاباضية، وصل الى تاهرت قادماً من العراق اخ الإمام ابي بكر وهو ابي اليقظان محمد بن أفلح، وقد سلم ابو بكر الادارة الى اخيه، نظراً لكونه مشغول في ملذاته ولهوه، لذا تقرب من عامة القبائل ومن البيت الرستمي ولامس رفضهم لتسلط ابن عرفة والعرب والجند، فقرر ابو اليقظان التخلص من منافسه على السلطة ابن عرفة وحرض اخاه ابو بكر على ذلك، وفعلا تم ذلك بتدبير اغتياله.
     نتيجة لقتل ابن عرفة فقد ثار اتباعه للاخذ بثأر زعيمهم، وقد قاد هذه الجموع من العرب والجند شخص يدعى محمود بن الويليلي، وصار لزاماً على الإمامة الرستمية الإباضية الدفاع عن نفسها أمام الجماهير الغاضبة، فاجتمع اتباع الإمام الإباضي ابي بكر في الجهة الغربية من تاهرت، وزحفت جموع القبائل الغاضبة واجتمعت في شرق المدينة، والتحم الطرفان في القتال، وهنا استغل طرف ثالث هذه الاوضاع المضطربة وحاول الاستيلاء على تاهرت وعلى كرسي الحكم فيه الا وهم العجم، وعند ذاك تنبه العرب والجند للخطر المحدق بهم فانضموا الى جيش الإمامة الاباضية الرستمية، واشتبك العرب والجند مع العجم وقتلوا اعداد كبيرة منهم، وفي هذا الوقت انسحب الإمام الإباضي واتباعه من الصراع، وتركوا العرب في مواجهة العجم، وعندما توالت انتصارات الجند والعرب خشى الإمام الإباضي والحليف الدائم له قبيلة نفوسة من تعاضم قوة العرب والجند خصوصًا بعد ان حدثت معركة بالقرب من درب النفوسيين، وتمكن العرب والجند من السيطرة على الدرب الذي اغلبه للعجم وبعضه للنفوسييين، فغضبت نفوسة وقاموا بالتحالف مع العجم، إلا أن الجند والعرب تمكنوا من السيطرة على تاهرت واخراج الإمام الاباضي واتباعه منها، وكذلك اخراج العجم، فانحازوا الى عدوة نفوسة وبنوا فيها حصناً منيعاً، وفي هذه المدة اعتزل الامامة ابو بكر بن افلح، واجتمع الناس من اتباع البيت الرستمي على مبايعة اخيه ابو اليقظان محمد بن أفلح (261- 281ه/874-894م). 
      ولم يستمر حكم العرب والجند طويلاً في تاهرت، إذ انهكتهم الحروب المستمرة مع الإمام الإباضي واتباعه، وظهرت قوى اخرى سحبت البساط منهم الا وهم قبيلة هوارة التي سبق وان خالفت امامة عبد الوهاب وانسحبت إلى جبل ينجان، عادت بعد أن سنحت الفرصة وتمكنت بزعامة محمد بن مسآلة الذي نصبوه اميراً عليهم من السيطرة على تاهرت، ويظهر أن عامة الناس في تاهرت ملت القتال لذا اذعنوا لسيطرة ابن مسآلة وركنوا للهدوء، لانهم عانوا الامريين من الحروب والوقائع التي حدثت بين الامامة الإباضية من جهة ، والجند والعرب من جانب اخر.
     وبعد مدة تجددت الخلافات القبلية فحدث صراع بين هوارة المسيطرة على حكم تاهرت وبين قبيلة لواته، فلما عجزت لواته عن مقاومة تسلط هوارة رحلت الى حصن لواته وتحالفت مع ابي اليقظان لمواجهة تسلط هوارة على تاهرت، واستمرت الحرب سجالاً بين الطرفين لمدة سبع سنوات، وفي الأخير استنجد الإمام الإباضي ابي اليقظان بحلفاءه من نفوسه في الجبل وطلب المدد، وعند وصول المدد اقترح وجهاء نفوسة الجبل على الإمام الإباضي ابا اليقظان ان يعرضوا الصلح على اهل تاهرت ويسالوهم العودة إلى إمامة ابي اليقظان، وفعلا تم الامر بدون قتال إذ أن اغلب اهل تاهرت قبلوا هذه الدعوة ودخلوا في طاعة الإمام الإباضي ابا اليقظان ودخل تاهرت دون قتال سنة 268ه/881م.
     وبهذا تمكن ابو اليقظان من اعادة احياء الدولة الرستمية بعد ان اضعفتها الخلافات بين العامة من ابناء القبائل وكذلك رغبت كل فئة من فئات العامة السيطرة على الاخرى، واتسم باقي عهده بالاستقرار والعدل واستقامت الامور له، وبعد وفاة ابي اليقظان تم تنصيب ابنه ابي حاتم يوسف 281ه/894م الذي كان ولياً للعهد بتأثير من زوجة ابي اليقضان غزالة، وهنا يبزر دور النساء في اواخر الدولة الرستمية واثرها في التدخل في شؤون الحكم، وحدث انشقاق في البيت الرستمي اذ اعترض يعقوب بن افلح عم ابي حاتم يوسف على طريقة تنصيبه.
      استغلت المذاهب الاخرى هذا الخلاف في البيت الرستمي، ودخلوا في تاجيج الصراع ومنهم الكوفيين، وغيرهم من ارباب المذاهب ، وبهذا اشتعلت الحرب من جديد في تاهرت وحاول ابو حاتم تأليب رجال القبائل ضد ارباب المذاهب والفرق، وجمع جموع غقيرة من لواته وصنهاجة ونفوسة والعجم وحاصرهم في تاهرت، وقد لاح النصر له، واصر على العامة ان يسلموا من قام بهذه الفتنة أي ان يسلموا زعماءهم فرفضوا، وتوجهوا لبيعة عمه يعقوب بن افلح الذي خرج غاضباً إلى زواغة، وبايعوه بالإمامة سنة 282ه/895م.   
    وقد حدث شرخ كبير في صفوف ابي حاتم عندما فارقته قبيلة لواته وانضمت إلى عمه يعقوب بن افلح، ولم يمنعه ذلك من معاودة الهجوم على تاهرت، وانشق عنه في هذه المرة العجم، ونظراً لطول مدة الحرب فقد شكت القبائل لشيخ مزاته كي يسعى لعقد الهدنة بين الفرقيين.
       استمال ابو حاتم في مدة الهدنة اهل تاهرت بالاموال والهبات، وذلك كي يستطيع العودة لكرسي الامامة الاباضية، وفعلا تم له ذلك اذ عزم أهل تاهرت على مبايعته وعندما علم عمه بذلك خرج من تاهرت الى قبيلة زواغة، بعد ان استمر في الحكم لمدة اربع سنوات، فدخل ابو حاتم تاهرت سنة 286ه/ 900م،  وكان ابو حاتم في حماية زعماء القبائل. 
     وقد قام يعقوب بن افلح عم الإمام الإباضي ابي حاتم يوسف في اثارة البيت الرستمي ضد إمامة ابي حاتم، ودبر عملية اغتياله بالاتفاق مع ابناء عمومته المقيمين في تاهرت والناقمين على إمامة ابي حاتم، فقتلوه حين غفلة سنة 294ه/906م، ونصبوا مكانه اليقظان بن ابي اليقظان والذي استمر في الحكم لمدة سنتين اشتدت فيها الصراعات القبلية والمذهبية، وتفشت في الدولة الرستمية الدعوة الاسماعيلية، ويذكر أن دوسر بنت ابي حاتم يوسف هي من استنجدت بابي عبد الله الشيعي، ووعدته إن أخذ بثأر ابيها من ابناء عمومتها تزوجت منه.  
    وكذلك فان ابا عبد الله الشيعي في طريقه لاحتلال تاهرت خرج اليه وجهاء القبائل والمخالفين للدولة من المذاهب الاخرى لاستقباله، وبهذا تهيأت الفرصة للداعي أبي عبد الله الشيعي للاستيلاء على تاهرت وانهاء الدولة الرستمية سنة 296/909م، بعد أن حصل على تأييد العامة من ارباب المذاهب والقبائل، وكذلك فان الصراعات في البيت الرستمي ونقمة ابناء العم على بعض جعلت من ابنة ابي حاتم تستنجد بهم لكي تنتقم مما فعلوه بابيها، لذا فان عوامل قيام الدولة الرستمية هي ذاتها عوامل انهيارها فهي قامت بأيدي العامة من اصحاب المذاهب المختلفة وكذلك العامة من رجال القبائل الذين يدينون بالإباضية، وسقطت بعد ان ضعف بسبب التناحر على كرسي الإمامة في البيت الرستمي الذي قسم الراي العام منهم وجعل كل فئة تنحاز إلى طرف على حساب الآخر إلى أن سقطت على يد قوى جديدة ناشئة ستكون الدولة الفاطمية على انقاض الدول التي اسقطتها في بلاد المغرب ومنها الدولة الرستمية. 
المصادر والمراجع:
  1. ابن الصغير المالكي، ت: ق3ه، اخبار الائمة الرستميين، تحقيق: محمد ناصر، ابراهيم بحاز، دار الغرب الاسلامي، بيروت، د.ت.
  2. ابو زكرياء، يحيى بن ابي بكر الوارجلاني، ت: ق5ه/11م،  كتاب سير الائمة واخبارهم، تحقيق: اسماعيل العربي، ط2، دار الغرب الاسلامي، بيروت، 1982.
  3.   الباروني، سليمان باشا، الأزهار الرياضية في ائمة وملوك الإباضية، مراجعة: محمد علي الصليبي، دار الحكمة لندن، 2005.
  4. الحريري، محمد عيسى، الدولة الرستمية بالمغرب الاسلامي حضارتها وعلاقتها بالمغرب والاندلس (160-296ه)، ط3، دار القلم، الكويت،1987.


شارك هذا الموضوع: