قال سيبويه:”فقف على هذه الأشياء حيث وقفوا ثمَّ فَسِّرْ”
بهذه الكلمات اختصر سيبويه وظيفة النّحويّ ومنهجه في دراسة كلام العرب. إذ لم يكن الدّرس اللغويّ منعزلاً عن مجالات العلم الأخرى خَاصَّة في تلك الأيام الّتي غلب عليها الجهد البيانيّ؛ فكثير من أئمة اللغة من كان قارئاً أو مفسِّراً أو فقيهاً أو عكس ذلك، فليس من المستبعد إذن أَنْ نلحظ التّأثير المتبادل بين العلوم، خَاصَّة ما كان منه على مستوى المنهج؛ والنظرة الفليلوجيّة لنصوص (كتاب سيبويه) تزوّدنا بشواهد بيّنة لذلك التّأثير.
تَجب-قبل محاولة بيان هذا التّأثير-الإشارة إلى وجود طائفتين من العلماء اعتنوا بدراسة النّصوص اللغويّة، أثبتهما سيبويه في كتابه ولكلّ من الطائفتين قصد بعينه من هذه الدّراسة.
الطائفة الأولى: عنيت بدراسة النّصوص لتكشف عن طريقة العرب في كلامهم في محاولة منها لوضع القواعد لمستويات هذا الكلام: نّحو ومفرداتٍ، وأبنية ودلالة وأصواتاً. وتتمثّل تلك الطّائفةُ في (النّحويّين)، الذين وظّفوا في مسعاهم ذاك النّصوص المكتوبة والمشافهة؛ نثراً وشعراً، ومفردات المأثورة عن العرب مع الاستعانة بالآياتِ المباركة والأحاديث النبويّة. وبلغت هذه الطّائفة قمة عطائِها عندما انتهت إلى وضع” النظرية اللّغوية للغة العربية” بصورتيها على يد الخليل في كتابه العين، وعلى يد سيبويه في كتابه.
أمّا الطائفة الثانية من العلماء: وربمّا كانت جهودها الأُولى هي الّتي مهدّت لبروز الطّائفة الأولى فقد اعتنت هذه الجماعة بدراسة القرآن الكريم، وذلك لا لأجل تقرير القواعد اللغويّة له بل للوصول إلى معاني آياته ومقاصدها. وتلك الفئة هي المفسِّرون، وهي الفئة الحاضرة في الكتاب. ولا يبعد أن ما نلحظهُ في الكتاب من كثرة استعمال لـ(فسر واشتقاقاتها)، ومشتقات مادّتها التي بلغت (150استعمالاً) معلماً واضحاً لاقتفائه آثار منهج المفسّرين؛ وذلك لاتّحاد المورد والهدف الأساسي. فإذَا كان المفسّرون يسعون إلى فهم ” كلام الله ” فإنّ سيبويه كان يسعى لفهم كلام العرب والقرآن، وكما يقول سيبويه عن كلام الله: ((فإنّما أُجرى هذا علَى كلامِ العباد، وبه أُنزل القرآنُ))(الكتاب1/332).
ويقدّم لنا سيبويه نصّاً يبرز فيه أنّه كان على إحاطة بعمل هذه الطّائفة ففي بعض نصوص كتابه ذكر جانبين من فهم “الدّلالة القرآنيّة“: الأوّل يمثله رأي الخليل، والثّاني يمثّل رأي المفسرين. ويبدأ النّصّ بقول سيبويه: ((وسألتُ الخليل-رحمه الله تعالى-عن قوله:﴿ وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ ﴾(من القصص82) وعن قوله تعالى جدُّه:﴿ وَيْكَأَنَّ اللَّه﴾{القصص82}؛ فزعم أنَّها (ويْ) مفصولة من كأنّ. والمعنى وقع على القوم انتبَهوا فتكلّموا على قدر علمهم أو نبّهوا فقيل لهم: أمّا يشبه هذا عندكم هكذا. والله تعالى أعلم. وأمّا المفسّرون فقالوا: أَلَمْ ترَ أنّ اللهَ))(الكتاب2/154).
لقد آثرت أَنْ أصف منهج سيبويه بالمنهج التفسيريّ معتمداً في ذلك على سيبويه نفسه إذ بيّن في عبارة لطيفة مختصرة وظيفة النّحويّين عامّة ووظيفتهُ خَاصَّة في دراسة كلام العرب، وذلك في عقب طائفة من التّركيبات الّتي اُختزل الفعل منها فنبّه بقوله: ((وتُجْرِى هذه الأشياءَ الّتي هي على ما يَستخفون بمنزلة ما يَحذفون من نفس الكلام وممّا هو في الكلام على ما أَجرَوْا، (إلى أَنْ يقول) فقفْ على هذهِ الأشياء حيثُ وقَفوا ثمَّ فَسِّرْ))(الكتاب1/265-266).
ولعلّ كتاب العين للخليل(ت175هـ) يعزّز القول بأنّ سيبويه اتبع (منهجاً تفسيريّاً) في كتابه كان معروفاً لدى المفسّرين، جاء فيه قوله: ((التّفسير وهو بيان وتفصيل للكتاب، وفَسَره يفسِره فَسْراً، وفسَّرَه تفسيراً))(العين7/247)، فاللفظة محدّدة اصطلاحاً. وقال ابن دريد(ت321هــ): ((والفَسْر من قَوْلهم: فَسَرْتُ الحديثَ أفسِره فَسْراً، إذَا بيّنته وأوضحته وفسّرته تَفْسِيرا كَذَلِك))(جمهرة اللغة2/718).
فقد سعى سيبويه ليفسّر كلام العرب، فأدرك غايته في ذلك بأنّ عقد كتابه على النّظر إلى الكلام وتركيباته وكيفيّة فهمه؛ فبيّن أنماطه ووظائف أجزائه، وأقلّ ما يمكن أَنْ يتكلّم به، وهو ذو فائدة، ومتى يحسن السّكوت ومتى لا يحسن وما الأعراض الّتي تطرأ على أصوله…الخ.
وحقيقةً أنَّ قيمة الكتاب لا تكمن في منهجه التّفسيريّ هذا فحسب بل تكمن في الآليّات الّتي اعتمدها سيبويه في الوصول إلى هذا التّفسير. إذْ اقتضى منه أَنْ يوظّف طائفة من النّظريات النّحويّة الفرعيّة لتحليل الكلام بمختلف مستوياته، وليس هذا حسب-فلم يغب عن سيبويه مقام الكلام وخضوعه للمؤثِّرات الاجتماعيّة بل لمؤثرات المحيط الخارجيّ بكلّ جوانبه، الجغرافيّة والتاريخيّة، والعقيديّة. وقد عبّر سيبويه عن التزامه بطريقة التّفسير هذه في أكثر من موضع في كتابه بآليَّات هذا الكلام وطرائقه.
ولعلّ تحليل معطيات المجال الدلاليّ لاستعمال (فسّر) ومشتقاتها خَاصَّة لفظة (تفسير) يؤكد ما سبق كلّه وأهمّها (آليّات فهم الكلام) فمن ذلك ما أردف به رجز العجَّاج:
أَطَرَباً وأنْتَ قِنَّسْرِيّ
إذ قال: “وإنّما أَراد: أَتَطْرَبُ، أيْ أنتَ فى حال طَرَبٍ؟ ولم يُرِد أَنْ يُخبِر عمّا مضى ولا عمّا يُستقبَل. ومن ذلك قول بعض العرب: “أَغُدّةً كغُدّة البعير ومَوْتاً فى بيتِ سَلُولِيَّةٍ “، كأَنّه إنّما أراد: أَأَغَدُّ غُدّةً كغُدّة البعير وأَموتُ موتاً فى بيتِ سَلوليّةٍ. وهو بمنزلة أَطَرَباً، وتفسيره كتفسيره“(الكتاب:1/338).
فالتّفسير هو بيان أنّه جرَى حذف الفعل لدلالةِ المصدَر عليه. وقوله (كأَنّه إنّما أراد) يعني الأصل في التّركيب أَنْ يكون بالفعل. وقد خرج هذا الكلام عن حقيقة الاستفهام إلى الاستنكار مرّة وإلى التّفجّع أُخرَى. وقال في الباب الذي وضعه لـ(لبَّيْك وسَعديك وما أُشتقا منه): “وإنّما حملَنا على تفسير لبَّيْك وسَعْديك لنوضِّح به وجه نصبهما؛ لأنّهُما ليسا بمنزلة سَقياً وحمداً وما أشبه هذا. ألا ترى أنّك تقول للسائل عن تفسير سقياً وحمداً: إنّما هو سَقاك الله سَقياً وأحمدُ الله حَمْداً. وتقول حمداً بدل من أحمد الله، وسقياً بدلٌ من سقاك الله. ولا تقدر أَنْ تقول: ألِبُّكَ لبّاً وأُسعِدُك سَعْداً. ولا تقولُ سعداً بدل من أُسعِدَ، ولا لَبّاً بدل من أُلِبُّ؛ فلمّا لم يكن ذاك فيه إلتمس له شيءٌ من غير لفظه معناه كبراءةِ الله حين ذكرناها لنبيّن معنى سبحان الله“(الكتاب1/353).
فالتفسير على ما تقدّم: بيان المعنى النّحويّ للكلمة لا معناها المعجميّ؛ وقد التمس سيبويه لهذا التفسير مالم يستعمل من الكلام؛ وسوّغ له ذلك إدراكه لطريقة العرب في كلامهم. وقوله (وإنّما حملَنا على تفسير) أشار به إلى ما تقدّم من قول الرجل للرجل: لبيك وسعديك “فقد قالَ له: قرباً منك ومتابعة لك؛ فهذا تمثيلٌ وإنْ كان لا يُستعمل في الكلام، كما كان بَراءةَ اللهِ تمثيلاً لسبحانَ اللهِ ولم يُستعمل“ (الكتاب1/353).
وقد يكون معنى التّفسير أكثر تحديداً عندما يدّل على بيان العلّة ووجه الكلام، فقد عنْوَن أحد أبواب كتابه بقوله:”هذا بابُ ما يُنتصَب من المصَادِر؛ لأنّهُ عذرٌ لوقوعِ الأمرِ. فانْتَصبَ لأنّهُ موقوعٌ له؛ ولأنّهُ تفسيرٌ لِما قبلَه لِمَ كانَ“(الكتاب1/367)، وهو ما أُصطلح عليه بالمفعول له أو لأجله. فالتّفسير بيان وتعليل لوقوع الفعل. ولا يَخفى أنّ المظهر الواضح من الكتاب هو التّوجّه إلى التّعليل للظّواهر النّحويّة بل للظّواهر اللغويَّة جميعاً. واستند فيه إلى إدراك لغويٍّ عميق لكلام العرب، وطرائقهم في حملِ الشَّيء على الشَّيء، والاستغناء بالشَّيء عن الشَّيء الذي هو أصل، وغير ذلك من المقاربات الّتي صاغها سيبويه عند تحليله لكلامهم. فإذَا تمَّ ما سبق فإنّ سيبويه في إطار تبنيّه لمنهج تعليليّ-تفسيريّ للظّاهرة النّحويّة قد توسَّل للوصول إلى ذلك عبر المستوَى الافتراضيّ (القبليّ) في بناء الجملة كما وضح فيما سبق. وكذلك توسّل إليه عبر البعد الاجتماعيّ للكلام فهو “يبني جميع تحليلاتِه على افتراض أنّ الكلام نشاطٌ اجتماعيٌّ يقع في أقل سياق حديث يكون من اثنين بمتكلّم ومخاطب. ويُعدُّ ذلك مهمّاً لسببين أوّلهما: أنَّ الكلام يعامل على أنّه شكل من السّلوك العرفيّ الاجتماعيّ؛ وثانيهما -وهو نتيجة منطقيّة لذلك -إنّ المخاطب له دوره الخاصّ في تحديد الشّكل اللغويّ الذي يستعمله المتكلّم“(نحويّ عربيّ من القرن الثّامن للميلاد 30). وهي مسألة مهمّة في تأكيد كون اللغة الّتي تعامل معها سيبويه لغة خطاب، وهي مسألة غاية في الأهمية، ولم تظهر عند غيره من النّحويّين اللاحقين.
ووفي إطار منهجه يعتمد سيبويه على معايير اجتماعيّة في إطار تقويمه لمستوى التّركيب الصّوابيّ فيستعمل المستقيم الحسن، والقبيح، والرديء وإلى غير ذلك. أمّا أثر المخاطب فملاحظاته في بيان أثره في صياغة بنية الكلام من نحو قوله: “وإنَّما أضمرُوا ما كان يقَع مُظهَراً استخفافاً، ولأن المخاطَب يعلمُ ما يعني، فجرى بمنزلة المثل، كمَا تقول: لا عليكَ، وقد عَرَفَ المخاطبُ ما تعني، أَنّه لا بأْسَ عليك، ولا ضَرَّ عليك“(الكتاب1/224). ويمكن أن نخلِّص مسارات منهج التفسير بالآليات الآتية:
لقد تبنّى سيبويه منهج المفسّرين في دراسته للظّاهرة النّحويّة وقد مثّل هذا الكلام تفاعلاً قائماً بين طائفتين تخصّصتا بدراسة النّصوص اللغويّة وهما طائفتا المفسّرين واللغويّين.
تأكّد تبنّي سيبويه لهذا المنهج عبر رؤيته لوظيفة اللغويّ، وهي تفسير كلام العرب مع كثرة واضحة في استعمال مادة(فسر). وأشارته إلى طائفة المفسّرين في أكثر من موضع. وكذلك اعتماده لآليات تفسيريّة للظاهرة اللغويّة. ولقد أفادنا سيبويه من ذلك معرفة المنحى الذي اتّبعه المفسّرون في عملهم.
نعني بالمهنج التفسيريّ-مع نسبته إلى المفسّرين-المنهج الذي يعلّل للظّاهرة المدروسة، وذلك للكشف عن مقاصد كلام العرب بوساطة الكشف عن طبيعة التّحولات البنائيّة داخل الجملة والوظائف النّحويّة والمعاني المرادة من كلّ ذلك. وتكمن أهمية هذا المنهج في الآليّات الّتي جرى توظيفها فيه وهي:
أ. المستوى القبليّ للبنية النّحويّة، وهو مفهوم (تَمْثِيلٌ وإنْ لَمْ يُتَكَلَّمْ بِهِ) أو (كأنّه قال…) و(إنّما أمثّل لك).
ب.نظريّة العامل، نظرية تكوين الجملة والنظريّة الرّابطة بين المكوّنات داخل البنية.