وزارة التعليم العالي والبحث العلمي
جامعة كربلاء كلية التربية للعلوم الإنسانية
ماجستير تاريخ أسلامي
مقالة تاريخية
الحيرة في الغيبة الصغرى
إعداد الطالب
علاء محمد غانم
1446 هـ 2025 م
أولاً المقدمة : إن شخصية الامام المهدي (عج) المحورية، وما دار حولها من اخبار وروايات كثيرة حول ولادته وخروجه الموعود، وتعلق الشيعة والمسلمين بشخصية الامام المعصوم، والمنقذ من الظلم والجور، وما رافق فترة الامام الحسن العسكري (ع) من تضييق وملاحقة ومراقبة شديدة من السلطات العباسية لولادة الامام الثاني عشر (عج) الموعود، فكانت ولادته وحياته سرية لحمايته من اعين وايدي الأعداء، سبب عند البعض، وخاصة عند وفاة الامام الحسن العسكري (ع) الحيرة والشك والتردد، وهذا ما سنبحثه في ورقة البحث هذه ان شاء الله .
ثانياً الحيرة لغة واصطلاحاً: حير: حَارَ بَصَرُه يَحارُ حَيْرَةً وحَيْراً وحَيَراناً وتَحيَّر إِذا نَظَرَ إِلى الشَّيْءِ فَعَشيَ بَصَرُهُ. وتَحَيَّرَ واسْتَحَارَ وحارَ: لَمْ يَهْتَدِ لِسَبِيلِهِ. وحارَ يَحَارُ حَيْرَةً وحَيْراً أَي تَحَيَّرَ فِي أَمره؛ وحَيَّرْتُه أَنا فَتَحَيَّرَ. وَرَجُلٌ حائِرٌ بائِرٌ إِذا لَمْ يَتَّجِهْ لِشَيْءٍ. وَفِي حَدِيثِ عُمَرَ، رضي الله عنه: الرِّجَالُ ثَلَاثَةٌ، فَرَجُلٌ حَائِرٌ بَائِرٌ أَي مُتَحَيِّرٌ فِي أَمره لَا يَدْرِي كَيْفَ يَهْتَدِي فِيهِ. وَهُوَ حائِرٌ وحَيْرانُ: تائهٌ مِنْ قَوْمٍ حَيَارَى، والأُنثى حَيْرى()، ح ي ر: (حَارَ) يَحَارُ (حَيْرَةً) وَ (حَيْرًا) بِسُكُونِ الْيَاءِ فِيهِمَا تَحَيَّرَ فِي أَمْرِهِ فَهُوَ (حَيْرَانُ) وَقَوْمٌ (حَيَارَى) . وَ (حَيَّرَهُ فَتَحَيَّرَ) وَرَجُلٌ (حَائِرٌ) بَائِرٌ إِذَا لَمْ يَتَّجِهْ لِشَيْءٍ().
ثالثاً بداية الحيرة : وصف عصر الغيبة في الروايات الشريفة بأنه عصر الخيرة والتمحيص والامتحان وهي من أهم السمات التي أكدت روايات المعصومين حينما تحدثوا عن عصور الغيبة، بعدما يغيب الإمام عليه وتبدأ المرحلة الحرجة من حياة الشيعة ، حيرة الغيبة ولذلك يسمى زمان الغيبة زمان الحيرة لتحير الناس فيه من جهة غيبة الإمام ، أو لوقوع الاختلاف والشك وتفرق الكلمة بعد غيبته ، عن أبي غانم() قال : سمعت أبا محمد الحسن بن علي عليهما السلام يقول : في سنة مائتين وستين تفترق شيعتي، ففيها قبض أبو محمد عليه السلام وتفرقت الشيعة وأنصاره ، فمنهم من انتمى إلى جعفر() ومنهم من تاه ومنهم من شك ، ومنهم من وقف على تحيره ، ومنهم من ثبت على دينه بتوفيق الله عز وجل().
فإننا نرى أن هناك أيضاً مجموعة من الأخبار الشريفة تحدثت عن الامتحان والتمحيص في عصر الغيبة فقط ، وصرحت أن من خواص ومميزات عصر الغيبة هو الامتحان والتمحيص ففي بداية الغيبة أخذت الحيرة شكلها الواضح، فأنكر الشكاكون وجود الإمام الثاني عشر، وقد أخبر المعصومون عنه بذلك ().كما في الخبر الذي رواه الشيخ النعماني وهو من الذين عاصروا بدايات الغيبة الكبرى وشاهدوا الأحداث العظمى من الحيرة والردة والفتنة بإسناده عن أمية بن علي القيسي”() من الخلف بعدك ؟ فقال : ابني علي وابنا علي ، ثم أطرق مليا ، ثم رفع رأسه ، ثم قال : إنها ستكون حيرة .قلت : فإذا كان ذلك فإلى أين ؟ فسكت ، ثم قال : لا أين – حتى قالها ثلاثا، فأعدت عليه ، فقال : إلى المدينة ، فقلت : أي المدن ؟ فقال : مدينتنا هذه ، وهل مدينة غيرها ؟ “()
أي حيرة أعظم من هذه الحيرة التي أخرجت من هذا الأمر الخلق الكثير والجم الغفير ، ولم يبق عليه ممن كان فيه إلا النزر اليسير ، وذلك لشك الناس ، وضعف يقينهم ، وقلة ثباتهم على صعوبة ما ابتلي به المخلصون الصابرون والثابتون والراسخون في علم آل محمد ( عليهم السلام ) الراوون لأحاديثهم هذه ، العالمون بمرادهم فيها ، الدارون لما أشاروا إليه في معانيها ، الذين أنعم الله عليهم بالثبات ، وأكرمهم باليقين ، والحمد لله رب العالمين().
رابعًأ أسباب الحيرة: أن دوافع وأسباب هذه الظاهرة لم يكن وراءها عدم وجود إمام معصوم، وإنما هي نوع من الأمراض النفسية الطبيعية التي تصيب بعض الناس نتيجة الصدمة التي تعود إلى الخطأ في تقديراتهم الشخصية فلا علاقة لها بأصل العقيدة والفكرة، فحيرة بعض أصحاب الصادق الله بعد وفاته لم تظهر بسبب عدم وجود إمام معصوم، وإنما كانت بسبب عدم معرفتهم بالإمام (ع) ولذلك فإنهم عادوا إلى صوابهم بعدما وفقهم الله تعالى لمعرفة الإمام (ع) لم تصلهم جراء الضياع لعدم وجود المعصوم، وإنما نشأت من جهلهم بالإمام (ع) ؛ ولذلك فإن الحيرة ارتفعت عنهم عندما عرفوا الإمام().
وقد ذكر الشيخ أبو زينب محمد بن إبراهيم النعماني أسباب الحيرة الذي عاش تلك الفترة من المحنة، وكتب في مقدمة كتابه (الغبية) قائلاً : فإنا رأينا طوائف من العصابة المنسوبة إلى التشيع ، المنتمية إلى نبيها محمد وآله صلى الله عليهم – ممن يقول بالإمامة التي جعلها الله برحمته دين الحق ، ولسان الصدق ، وزينا لمن دخل فيها ، ونجاة وجمالا لمن كان من أهلها ، وفاز بذمتها ، وتمسك بعقدتها ، ووفى لها بشروطها ، من المواظبة على الصلوات ، وإيتاء الزكوات ، والمسابقة إلى الخيرات ، واجتناب الفواحش والمنكرات ، والتنزه عن سائر المحظورات ، ومراقبة الله تقدس ذكره في الملأ والخلوات ، وتشغل القلوب وإتعاب الأنفس والأبدان في حيازة القربات – ، قد تفرقت كلمها وتشعبت مذاهبها ، واستهانت بفرائض الله عز وجل ، وخفت إلى محارم الله تعالى ، فطال بعضها علوا ، وانخفض بعضها تقصيرا ، وشكوا جميعا إلا القليل في إمام زمانهم ، وولي أمرهم ، وحجة ربهم التي اختارها بعلمه ،
كما قال جل وعز : ( وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الحيرة )() (من أمرهم)() للمحنة الواقعة بهذه الغيبة التي سبق من رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ذكرها ، وتقدم من أمير المؤمنين ( عليه السلام ) خبرها ، ونطق في المأثور من خطبه والمروي عنه من كلامه وحديثه ، بالتحذير من فتنتها ، وحمل أهل العلم والرواية عن الأئمة من ولده ( عليهم السلام ) واحدا بعد واحد أخبارها حتى ما منهم أحد إلا وقدم القول فيها ، وحقق كونها ووصف امتحان الله تبارك وتعالى اسمه خلقه بها بما أوجبته قبائح الأفعال ومساوئ الأعمال ، والشح المطاع ، والعاجل الفاني المؤثر على الدائم الباقي ، والشهوات المتبعة ، والحقوق المضيعة التي اكتسبت سخط الله عز وتقدس(). وكما روينا عن أبي عبد الله جعفر بن محمد عليهما السلام أنه قال : من دخل في هذا الدين بالرجال، أخرجه منه الرجال كما ادخلوه فيه ومن دخل فيه بالكتاب والسنة زالت الجبال قبل أن يزول. ولعمري ما أتي من تاه، وتحير، وافتتن، وانتقل عن الحق، وتعلق بمذاهب أهل الزخرف والباطل إلا من قلة الرواية والعلم، وعدم الدراية والفهم فإنهم الأشقياء لم يهتموا الطلب العلم، ولم يتعبوا أنفسهم في اقتنائه وروايته من معادنه الصافية ؛ على أنهم لو رووا، ثم لم يدروا ؛ لكانوا بمنزلة من لم يرو. وقد قال جعفر بن محمد الصادق الثا : اعرفوا منازل شيعتنا عندنا على قدر روايتهم عنا وفهمهم منا()
خامساً من وقع بالحيرة ومدتها : لقد وقعت الحيرة في فئة معينة من الشيعة فقد روى الكليني في الكافي قال : عن الأصبغ بن نباتة قال : أتيت أمير المؤمنين عليه السلام فوجدته متفكرا ينكت في الأرض ، فقلت ، يا أمير المؤمنين مالي أراك متفكرا تنكت في الأرض ، أرغبة منك فيها ؟ فقال : لا والله ما رغبت فيها ولا في الدنيا يوما قط ولكني فكرت في مولود يكون من ظهري ، الحادي عشر من ولدي ، هو المهدي الذي يملأ الأرض عدلا وقسطا كما ملئت جورا وظلما ، تكون له غيبة وحيرة ، يضل فيها أقوام ويهتدي فيها آخرون ، فقلت : يا أمير المؤمنين ! وكم تكون الحيرة والغيبة ؟ قال : ستة أيام أو ستة أشهر أو ست سنين ، فقلت : وإن هذا لكائن ؟ فقال : نعم كما أنه مخلوق وأنى لك بهذا الامر يا أصبغ أولئك خيار هذه الأمة مع خيار أبرار هذه العترة ، فقلت : ثم ما يكون بعد ذلك فقال : ثم يفعل الله ما يشاء فإن له بداء ات وإرادات وغايات ونهايات(). يقول العلامة المجلسي() : قوله عليه السلام : ستة أيام لعله مبني على وقوع البداء في هذا الأمر ، ولذا ردد عليه السلام بين أمور ، وأشار بعد ذلك إلى احتمال التغيير بقوله : ثم يفعل الله ما يشاء ، وقوله : فإن له بداءات، أو يقال : أن السائل سأل عن الغيبة والحيرة معا فأجاب عليه السلام بأن زمان مجموعهما أحد الأزمنة المذكورة ، وبعد ذلك ترتفع الحيرة وتبقى الغيبة ، ويكون الترديد باعتبار اختلاف مراتب الحيرة إلى أن استقر أمره عليه السلام في الغيبة .
والملفت في كلام العلامة المجلسي الإشارة التي أومأ بها إلى ظاهرة الحيرة النسبية :
أ . إن الحيرة لم تطبق أضراسها على الجميع، وإنما ابتلي بها بعض الناس دون غيرهم.
ب . إن الحيرة التي ابتلي بها باقي الناس كانت مؤقتة، وكانت حالاتها متباينة فمنهم من ظهرت له الحقيقة بشكل سريع ورجع إلى الحق، ومنهم من احتاج إلى مدة أطول ليبحث ويتحقق وقد وفقه الله عز وجل إلى ذلك بعد مدة ليست بالطويلة. وهناك روايات كثيرة تبين حالات اؤلئك الناس، وزوال الحيرة عنهم، ورجوعهم إلى الهدى بعدما تبين لهم().
فإننا لم نجد في جميع المصادر والكتب التي ذكرت هذه الحيرة اسماً واحداً لأحد من أصحاب الإمام العسكري عليه أو من وجهاء الشيعة وفقهائها بانه احتار ، او شملته تلك الحيرة. ويعود سبب عدم تمكن الحيرة من أولئك العلماء الى أمور أهمها :ويعود سبب عدم تمكن الحيرة من أولئك العلماء إلى أمور أهمها :
١- أنهم كانوا قد رووا عن الأئمة الطاهرين عليهم السلام أن الإمامة المعصومة سوف تختتم بالمهدي المنتظر ابن الإمام العسكري عالية.
2- وكذلك رووا عن السادة المعصومين عليهم السلام أن الإمام المهدي سوف يحتجب عن شيعته.
3- كما أنهم رووا : أن الله (عز وجل) سوف يمتحن شيعته بغيبته، وأن له غيبتين : إحداهما أطول من الأخرى. . 4- وكذلك فقد رووا عن آبائه السابقين كثيراً من التفاصيل التي سوف تقع من حين ولادته إلى يوم ظهوره ، فحكومته على الله تعالى فيه الشريف.
5- أضف إلى ذلك فإنهم كانوا يعلمون بولادته علم اليقين، إما بإخبار الإمام العسكري عليه السلام لهم بولادته، أو برؤيته، ومشاهدته كما وقع ذلك للكثيرين منهم().
سادساً كيف انجلت الحيرة والاسباب:
1- بسبب تمهيد الرسول والائمة (ع) لفكرة الامام المهدي(عج) وولادته وغيبته وظروف الشيعة بغيبته وما يرافقها من محن و فتن وحيرة.
2- لقد بذل الائمة الثلاثة المتأخرين الإمام الجواد (ع)، والإمام الهادي (ع)، والإمام العسكري (ع) جهود كبيرة لحفظ الشيعة وتعليم علماؤها وتثقيفهم ثقافة مهدوية لكي يواجهوا الفتن والانحرافات التي ستحدث بعد الغيبة ورغم الفترة الصعبة التي رافقتهم فقد سمحوا للثقات منهم بمشاهدة الامام الحجة (عج).
3 – كان لظهور النواب الخاصين الأربعة الذين تصدوا لهذه المهمة الشاقة بالترتيب كان الشيعة يتصلون بالوكلاء المبثوثين في أصقاع الأرض، او اؤلئك يتصلون بالنائب الخاص ليوصل الأموال، والمسائل، والرسائل إلى صاحب الامر(عج) ، وكان يخرج الجواب، ويخرج حل المشكلة من الإمام (عج) إلى السائل بما تعارف تسميته بالتوقيع. ويبدو أن اسم التوقيع جاء من إمضاء الإمام ، وتوقيعه في ذيل الجواب إذن إن فرصة الاتصال بالإمام (عج) كانت موجودة في الغيبة الصغرى، وقد حفظ لنا التاريخ كثيراً من تلك الرسائل الشريفة، والقضايا التي خرجت من الإمام الله إلى السائلين، وطلاب قضاء الحوائج.
4- العلم و الكرامات التي ظهرت للنواب الأربعة والتي ذكرت وظهرت في كثير من الروايات الموثوقة والصحيحة .
5 – توفير اللقاء العام بالإمام المهدي (عج) بالمراسلة ومع ان طريقة ظهور الإمام الله للناس، واللقاء بهم قد تغيرت منذ بداية عصر الغيبة الصغرى – بل قد يمكن أن يقال : إن بداية العصر الجديد من الإمامة قد ابتدأ من حين ولادته عجل الله تعالى في القريب ومع ذلك فإنَّ باب اللقاء به بقي مفتوحاً ، ولو نسبياً، ولكنه غير مغلق على نحو الإطلاق. وأوضح أشكال اللقاء به أنه كان يتحقق بإستخدام الأسلوب السابق نفسه الذي كان في عهد أبويه الإمام الهادي عليه ، والإمام العسكري عليه بطريقة المكاتبة ، والرسائل.
6- السماح في مواقع الضرورة للقاء الإمام المهدي مواجهة مع اننا نعلم بان الإمام المهدي قد انقطع عن الناس، واستتر دونهم، حتى خفيت ولادته عن أكثرهم ، ولكنه لم يكن ذلك على نحو كلي ، وإنما كان هو الغالب، ولذلك فقد حظي كثير من المؤمنين بشرف لقائه في حياة أبيه (عج)، وبعد ذلك إلى حين إعلان الغيبة الكبرى. بل، إن باب اللقاء به بقي مفتوحاً حتى في الغيبة الكبرى، وليومنا الحاضر، ولكن بشروط غير عادية.
سابعاً الخاتمة : وهكذا تبين معنا ان الحيرة كانت موجودة ولكن لفترة محددة وبنطاق ضيق ومحدود وقد انزالت هذه الحيرة بسبب جهود اهل البيت (ع) والعلماء والمخلصين في توضيح ونشر الروايات عن الامام الحجة (عج) الموعود الذي سيملأ الارض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً .