سكن العراق أقليات دينية وعرقية ومن تلك الأقليات الاثوريين أو الأشوريين أو التيارين والذين اختلفت الآراء حول أصولهم فمنهم من أشار إلى إنهم من اصل كردي لكنهم أبدلوا لغتهم الكردية بلغة الكنيسة عند اعتناقهم المسيحية وانتشارها في أقسام كردستان ، ويشير آخرون إلى أنهم طائفة من النساطرة الذين يعتنقون المسيحية النسطورية، وهناك بعثة فرنسية أكدت بأن هذه الطائفة الأقلية تعود جذورها إلى الأشوريين نتيجة التنقيبات الاثرية التي أجريت عام 1845.
هناك عوامل عديدة ساعدت وساهمت على ان يكون للاثوريين مستقراً في العراق ويأتي في مقدمتها العامل التبشيري الذي تبنته الدول الاستعمارية كفرنسا وبريطانيا لتسهيل خططها في المنطقة، إذ كان التبشير لايخلو من التنافس بين مبشري كل دولة فبريطانيا تجد نفسها مسؤولة عن نشر المذهب المسيحي البروتستانتي في حين ان فرنسا اهتمت بالمذهب الكاثوليكي، كما قلقت الأخيرة من ظهور المبشرين الأمريكيين في مناطق العراق التي يسكنها الأقليات لاسيما النساطرة وان ذلك كان كفيل في ان تقوم كل دولة منها ببناء الكنائس والمدارس التبشيرية الدينية والمستشفيات كونها تعتبر ان هؤلاء الأقلية رعايا خاصين بها.
كان الاثوريون قبل الحرب العالمية الأولى يعيشون في حدود الدولة العثمانية وإيران وكانوا يتمركزون في ولايات الموصل وأرضروم ووان، وتشير المصادر الى ان عددهم في العراق بلغ حوالي الــ(250,000) نسمة في حين يذكر الدكتور فاضل حسين (رحمه الله) استنادا الى لجنة التحقيق الدولية للحدود العراقية –التركية ان عددهم بلغ ما بين (80,000-90,000) نسمة.
بدأت القضية الآثورية في العراق تأخذ منحى آخر بعد الحرب العالمية الأولى فلما تقرر أبقاء ولاية الموصل ضمن السيطرة البريطانية وفق تسويات مؤتمر الصلح بباريس 1919 أخذت فرنسا تتعمد بشكل واضح من منع حضور الوفد الاثوري الى المؤتمر لكي لايطرح موضوعهم على الأعضاء المؤتمرون مؤكدة تكفلها بشأن قضيتهم، في حين ان بريطانيا اهتمت الأخرى بقضيتهم بشكل واضح خلال تسويت مؤتمر الصلح لتثبيت مصالحها في المنطقة، كما وان بريطانيا استفادة من الاثوريين كورقة ضغط على الجانب التركي خلال مفاوضات حل مشكلة الموصل، كما وهدفت للاستفادة منهم لخدمة نفوذها ومصالحها في البلاد فضلا عن تبنيها إثارة النعرات الدينية والقومية الأمر الذي سيمكنها من القضاء على الحركة الوطنية المعارضة لاطماعها اي استخدامها كورقة لضرب المعارضة او التدخل بشكل مباشر، وقد التقت المصالح البريطانية مع مساعي الاثوريين وأفكارهم السياسية في الحصول على الاستقلال الذاتي لذا نجدهم منذ الحرب العالمية الأولى يساندون البريطانيين والحلفاء الأمر الذي دفع بريطانيا لتنظر نظرة بالغة الأهمية الى (أسرة المار شمعون) الآثورية حتى لتتمكن من خلالها توجيه اتباعها كيفما تشاء، وكان قد تزعم تلك الاسرة (المارشمعون بولص) والذي توفى عام 1920 وحل محله أخوه (المارشمعون ايشادي)، وكان لهؤلاء الزعماء الاثوريين دور في تحريك اتباعهم وفقاً لما تقتضيه المصالح السياسية البريطانية في البلاد، حتى ان الاخيرة اعتمدت على عدد كبير منهم في (قوات الليفي) –اي القوات المجندة- ومكافئة لمجهوداتهم المساندة للبريطانيين من جهة وربط مصيرهم مع سلطات الانتداب املا منهم للحصول على الاستقلال الذاتي فكافئهم الانكليز بمنحهم أراضي واسعة للسكن في منطقة الدورة جنوب بغداد.
ان اهتمام بريطانيا بالاثوريين ولد شعورا معاديا لهم من قبل العراقيين الذين كانوا ينظرون اليهم كغرباء عن البلد من حيث الجانب الديني او العرق ولا يرتبطون مع العراق بأية رابطة قوية، واستخدمتهم بريطانيا لقمع الحركة الوطنية، حتى ان الاثورييون وبإيعاز من بريطانيا اخذوا يتحدون العرب والاكراد، ونتيجة لهذه السياسة الرعناء ثارت المشاعر وتأجج العداء الديني السياسي وتحول الى صدام مباشر بين الطرفين، فلما اعربت الحكومة البريطانية عام 1929 عزمهما على ترشيح العراق للدخول عصبة الأمم ابدى الاثورييون تخوفهم وازداد ذلك بعد نشر معاهدة 1930 وخلوها من اية اشارة للقضية الاثورية فأرسلوا عرائض عديدة الى عصبة الأمم طلبوا فيها اما ترحيلهم من العراق واما استمرار الانتداب البريطاني على العراق، وهناك مجلد وثائقي بقرابة الـ(598) صفحة بعنوان (المسألة الأشورية) والذي يتضمن العديد من المقترحات البريطانية حول الأزمة الاثورية في العراق واقتراح توطينهم اما في البرازيل او غينا البريطانية في إفريقيا وغيرها من مقترحات أخرى.
بدأ الاثوريين يتبنون أفكار سياسية انفصالية بشكل واضح عندما فهموا من المفتش الاداري البريطاني في العراق بأن مطالبهم سترفضها الحكومة العراقية لتزداد العلاقة بينهم وبين الاخيرة سوءاً منذ تموز 1933 عندما عبر الحدود العراقية السورية (1350) مسلح آثوري مطالبين من فرنسا التدخل لحل قضيتهم، وكانت الدوافع لهذا التمرد مطالبتهم بالحكم الذاتي في الأراضي التي يعيشون فيها، ونتيجة ذلك قامت الحكومة العراقية باستدعاء المارشمعون إلى بغداد و نصحته بالتخلي عن أعمالهم المريبة، وأوضحت له النتائج الوخيمة، فلم يستمع فمنعته من العودة إلى الموصل إلا بتعهد بالكف عن التحريض، ولقد آثار هذا المنع الأوساط النصرانية، وكان الملك فيصل حينها في أوربا فلفت رجال الوزارة البريطانية أنظاره إلى الأثر السيئ الذي تركه هذا العمل في النفوس، فطلب من رئاسة الوزارة في بغداد السماح إلى المارشمعون بالعودة إلى الموصل دون قيد، فردت الرئاسة قائلة : ‘‘لما كان رجوع المارشمعون إلى الموصل بدون التعهد سيؤدي حتما إلى اضطرابات تخل بالأمن، فقد اتفق وزير الداخلية مع مستشاره البريطاني على إبقائه هنا فبلغه الوزير البقاء‘‘.
خلق التمرد الاثوري وضعاً مضطرب في البلاد بسبب تبني الحكومة العراقية سياسة قمعية تجاه الأثوريين لكبح جماحهم، ولم يقتصر ذلك على المسلحين فحسب بل تعدت ذلك لتقع مذابح بين العزل في قرى الاثوريين، وفي 11 آب 1933 حصل الصدام بين الطرفين وبدء الحكومة سلسلة قصف جوي على الاثوريين، وعلى اثرها تمكنت الأخيرة من السيطرة على التمرد الذي قام به الاثوريين وعودة الحياة الى طبيعتها وإصدار العفو العام عن المتمردين منهم.
وفي ختام المقالة التاريخية نجد ان الاثوريين كأقلية دينية مسيحية تبنت افكار سياسية استغلت التقارب الديني من بعض الدول الأوربية لتحقيق هدفها في الحصول على الاستقلال الذاتي في البلاد، وبالفعل حصلت في البدء على تأييد بريطانيا التي استغلت قضيتهم خلال مشكلة الموصل، الا ان ذلك الاهتمام والتأييد سرعان ما تراجع نتيجة توصل البريطانيين وفق معاهدات عقدتها مع المملكة العراقية إلى مقررات تضمن مصالحها في البلاد لتترك الاثوريين بمواجهة مباشرة مع القوات النظامية مع تقديم بعض الاحتجاجات وماشابه.
أعتمد المقال على المصادر التالية:
IOR/L/PS/12/2874 وثائق وزارة المستعمرات البريطانية. (وثائق غير منشورة)
انفال جبير احمد ، موقف فرنسا من الاثوريين قي العراق للمدة (1932-1933) ، مجلة جامعة الانبار للعلوم الانسانية ، العدد2 ، المجلد1 ،2021.
جهيدة العابدي ، التطورات السياسية في العراق (1920-1958) ، رسالة ماجستير غير منشورة ، (جامعة محمد خضير يسكرة : كلية العلوم الانسانية والاجتماعية ، 2019.
رياض رشييد ناجي الحيدري ، الاثوريون في العراق 1918-1936 ، مطبعة الجيلاوي ، القاهرة ، 1977.
عدنان زيان فرحان ، السياسة البريطانية تجاه الاقليات الدينية في العراق (1914-1941) ، اطروحة دكتوراه غير منشورة ، كلية الآداب ، جامعة دهوك ، 2009.
عمار يوسف عبد الله ، بريطانيا والآثوريون في العراق 1918-1933 ، مجلة التربية والعلم ، جامعة كركوك ، مج 14 ، العدد1 ، 2007.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ، بريطانيا وقوات الليفي في العراق 1920-1932 ، مجلة ابحاث كلية التربية الاساسية ، العدد 1 ، المجلد 7 ، 2007.