نقد اراء الدكتور علي الوردي حول طبيعة المجتمع العراقي
1-قبل البدء بنقد اراء الوردي لا بد ان يدرك المتلقي ان الوردي عندما طرح اراءه لم يقل عنها انها مسلمات لا يمكن النقاش فيها او تغييرها ويذكر في مقدمة كتابه (دراسة في طبيعة المجتمع العراق): (( ان الآراء التي وردت في مؤلفاتي لم تكن نهائية. فقد غيرت البعض منها وابقيت البعض الاخر على حاله. وهذا امر لا اعتذر عنه. فالبحث العلمي من شأنه التغيير والتطوير، اذ هو يسير في ذلك تبعا لتغير المعلومات التي يعثر عليها الباحث مرة بعد مرة. ولهذا ارجو من القارئ ان لا يستغرب حين يجدني اقول في هذا الكتاب برأي مخالف لما جاء في بحوثي السابقة)) كما يذكر في المقدمة نفسها: (( خلال دراستي الطويلة للمجتمع العراقي، قد ناقضت نفسي كثيرا. وربما اخذت اليوم برأي، وتركته غدا، ثم رجعت اليه بعد غد. وقد لاحظ الطلاب ذلك مني، حين وجدوني اغير منهج الدراسة في موضوع المجتمع العراقي عاما بعد عام. ولست استبعد، بعد صدور هذا الكتاب، ان اغير الكثير من الاراء التي وردت فيه. وربما شهد القارئ في كتبي القادمة اراء مناقضة لها)). كما يذكر في خاتمة الكتاب نفسه: (( حاولت في هذا الكتاب شرح الفرضية التي اخذت بها في دراسة المجتمع العراقي، وهذه الفرضية تصح او لا تصح، انما هي على اي حال محاولة ابتدائية ربما كانت حافزا لغيري على خوض هذا الموضوع المعقد وعلى الوصول به الى نتائج مجزية)) 2- اوضح الوردي في معظم كتاباته ان المجتمع العراقي تسود فيه قيم البداوة رغم حياة التحضر التي يعيشها بعض افراده وان هناك صراعا بين البداوة والحضارة داخله. اذ يذكر في الفصل الاول من كتابه طبيعة المجتمع العراقي ذلك بقوله: (( خلال دراستي للمجتمع العراقي وجدت فيه ظاهرة اجتماعية كدت المحها فيه اينما توجهت في نواحيه المختلفة عبر الزمان والمكان، وهي التي اسميتها بظاهرة الصراع بين البداوة والحضارة)). وهذا بعيد عن الواقع. 3- من يطلع على كتابات الوردي سيجد انه يطرح ارائه عن المجتمع العراقي وكأنما جميع افراد المجتمع من قومية وافكار وطبيعة واحدة وهذا بعيد عن الواقع، ولكن الواقع غير ذلك اذ نجد ان سكان العديد من المدن العراقية ومنذ العقود الاولى من القرن العشرين لا يخضعون لذلك التعميم لا سيما وان بعض تلك المدن استقطبت اعداد غير قليلة من المهاجرين الاجانب منذ القرن الثامن عشر وحتى القرن العشرين، ومنهم على سبيل المثال المماليك الذين انتقلوا للعيش في بغداد والمدن القريبة منها خلال حكمهم للعراق (1749-1831) اضافة الى المهاجرين من دول الجوار ومعظم هؤلاء اندمجوا مع ابناء المجتمع الاصليين وكونوا عنصرا مهما داخل المجتمع العراقي ونقلوا معهم بعض عاداتهم وافكارهم. ما نريد قوله انه ليس جميع ابناء المجتمع العراقي نزحوا من الصحاري الى المدن، كما يبين الوردي في كتاباته، وانما المجتمع العراقي مكون من مجموعة مكونات لا تفتقر الى التحضر وليس جميع افراده هم من البدو او ممن يحملون قيم البداوة كما يعتقد. 4- القى الوردي عام 1958 في الجامعة الامريكية ببيروت محاضرة بعنوان “الضائع من الموارد الخلقية في البلاد العربية” ونشرت المحاضرة المذكورة في مجلة الابحاث الصادرة عن الجامعة المذكورة في حزيران من العام نفسه ويقول الوردي انه ركز على “اخلاق اهل العراق بشكل خاص”. ولو رجعنا للمحاضرة المذكورة نجد انه انتقد بعض شيوخ العشائر والمتنفذين من الاقطاع وبعض رجال الدين وتصرفهم مع البسطاء، كما انتقد في المحاضرة المذكورة بعض العادات الاجتماعية لدى سكان البادية والارياف ومنها التفاخر بالنهب وعدم الايفاء بالديون طوعا والربا. ولكننا نرى ان ما ذهب اليه الوردي ليس امرا خاصا بالمجتمع العراقي بل هو موجود في معظم المجتمعات العربية آنذاك كما كانت بعض المجتمعات الاوربية وحتى اواخر القرن التاسع عشر تعاني من مثل ذلك الاستغلال اي ان الامر لا يتعلق بالمجتمع العراقي فقط. 5- اوضح الوردي في كتاباته ان قيم البداوة بقيت في افراد المجتمع العراقي رغم تحضرهم لانهم نقلوها معهم اثناء انتقالهم من حياة البداوة في الصحراء الى حياة التحضر في المدن. ولكننا نجد ان هذا الرأي يحتاج الى اعادة النظر فيه اذ ان جميع المجتمعات المتحضرة في وقتنا الحاضر، بما فيها المجتمعات الغربية، لم تكن قبل قرون عدة سوى مجموعات بدائية تحكمها عادات وتقاليد واعراف لا تقل عن قيم البداوة وافكارها الا انها بمرور الوقت تطورت تدريجيا الى ان وصلت الى ما هي عليه الان. اي ما نريد قوله ان اي مجتمع لا بد ان يمر بمراحل من التطور حتى يصل الى مرحلة التحضر وان ما مر به المجتمع العراقي هو مراحل تطورية تدريجية وليس تحولا مفاجئا كما حاول ان يبينه الوردي في كتاباته. 6- اتسمت كتابات الوردي عن المجتمع بالعمومية وقد انتقد بعض الاعراف والعادات والتقاليد التي كانت سائدة في المجتمع العراقي في مرحلة معينة من تاريخه. اي انه ينتقد المجتمع وكأنما هو كيان ثابت غير متغير وان الافراد باقون على افكارهم منذ قرون وهذا الامر بعيد عن الواقع لان المجتمع يتغير ويتطور تدريجيا وان الافكار والعادات والتقاليد التي يعتنقها افراده هي ليست ثابته بل هي قابلة للتغيير فعلى سبيل المثال ان ما كان سائدا في المجتمع العراقي من عادات وتقاليد قبل مائة عام هي مختلفة عما هو موجود في وقتنا الحاضر من قيم وعادات وتقاليد وان النظرة التي كانت سائدة في المجتمع عن المرأة في ذلك الوقت على سبيل المثال هي مختلفة عن نظرة المجتمع للمرأة في وقتنا الحاضر وينطبق الامر ذاته على ما انتقده الوردي من عادات وتقاليد وظواهر اجتماعية داخل المجتمع العراقي. 7- من القضايا المهمة التي طرحها الوردي عن طبيعة المجتمع العراقي هي تأكيده على ضرورة ان يتسم جميع ابناء ذلك المجتمع باحترام الآراء المخالفة لآرائهم ولا يتعصبوا في افكارهم، كما اكد على ضرورة تناسي الخلافات التاريخية بين بعض الشخصيات التي مضى عليها قرون.