قبيلة قريش قراءة في الظهور

                            قبيلة قريش قراءة في الظهور

                                                                             أ.د.عمار محمد يونس

   مر الباحثون بتاريخ مكة ودرسوه بشكل تفصيلي ، خاصة المرحلة التي سبقت البعثة النبوية الشريفة بأعوام.  و هو أمر طبيعي لما توفره تلك المرحلة من معلومات هامة لمعرفة الوضع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي لمدينة مكة، وما أحدثته الدعوة الإسلامية من انقلاب جذري على مختلف جوانب الحياة فيها.

   ولكن الغريب في الأمر إن الباحثين مروا على تصنيف المجتمع المكي إلى ” بطاح وظواهر” مرور الكرام ولم يفسروا أسباب ذلك التصنيف بشكل شاف. لذا فان هذه السطور تحاول توضيح بعض الغموض وفق ما تيسر من معلومات عن أسباب تصنيف المجتمع المكي و أبعاد ذلك التصنيف على العلاقات التجارية والسلطة السياسية ، وما خلفه من بون شاسع بين طبقة الاثرياء وبقية طبقات المجتمع المكي . ولكان للتاريخ مسار آخر لولا ذلك التصنيف المالي الجديد والذي جعل لمكة امتيازاً خاصاً عن باقي المدن الحجازية ، مولداً نظاماً جديداً بعيداً كل البعد عن النظام القبلي السائد في المنطقة العربية آنذاك.

   وقريشٌ قبيلة الرسول – ص- ، أبوهم النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن الياس بن مضر ،وهذه القبيلة الشريفة كمل شرفها وعظم قدرها واشتهر ذكرها واستحقت التقدم على بقية القبائل وسائر البطون من العرب وغيرها برسول الله – ص- .

   واليها – قريش – يرجع الفضل في توثيق الروابط التي تربط من يؤمون البيت الحرام كل عام من مختلف البلدان ، إذ أصبحت مكة المكان الذي تفد إليه القبائل من كافة أرجاء بلاد العرب حيث يجتمعون للحج والتجارة . وقد جعل هذا الأمر لقريش مركزاً خاصاً في نفوس القبائل.(1)

   وقد قام قصي بن كلاب بعد تزعمه مكة ، جمع قبائل قريش وأمر لهم بابطح مكة وكان بعضهم في شعاب الجبال ، فقسم منازلهم بينهم (2) وذكر لنا ابن كثير (3) إن قصي أنزل قبائل قريش أبطح مكة وأنزل طائفة منهم ظواهرها فكان يقال قريش البطاح (4) وقريش الظواهر(5). وأورد المسعودي (6)  القبائل القرشية في البطاح وكذلك القبائل القرشية التي سكنت الظواهر.

   ذكرت الروايات ( 7) – كما أسلفنا – ان  قصي  بن كلاب عندما تسلم زعامة مكة ، قسم قبائل  قريش الى بطاح وظواهر وأنزل كل قوم ٍ من قريش  منازلهم.

والـواقـع ان تقسيم مكـة لم يـكن عشـوائياً أو وفــق التقسيم القبـلي ، بـل كـان تقسيمـاً

– تصنيفاً – اجتماعياً لقريش . فجعلهم صنفان : الأول ، الأعلى مرتبة وهم ” قريش البطاح ” وأسكنهم حول الكعبة ،والصنف الثاني ،الأدنى مرتبة وهم ” قريش الظواهر” وأسكنهم في ظواهر مكة.(8)

   ولكن على أي أساس قام هذا “التصنيف” ؟ . بدون شك كان التصنيف قائماً على أساس الوضع المالي ،وهذا يعني انه لم يكن وفق العُرف القبلي والدليل على ذلك ان كِلا الصنفين “البطاح والظواهر” هم من ينتمي إلى قريش بنسب أو متحالف معها. ولو كان التصنيف قائماً على العُرف القبلي لكان بشكل آخر.

   وهذا ما يدفعنا إلى تساؤل  آخر هو: لماذا كان الوضع المالي أساسا للتصنيف الذي أتخذه قصي بن كلاب؟

وللإجابة على هذا السؤال علينا العودة إلى نهاية الصراع بين قصي وحلفائه وبين سكان مكة على السيادة الفعلية عليها.

   الثابت تاريخيا أن قصي وقومه وحلفائه دخلوا في حرب مع قبيلتي خزاعة وبكر ، اللتان حكمتا مكة قبل الحرب بينهم . ثم احتكم المتحاربون إلى  يعمر بن عوف بن كعب من بني كنانة (9) ، وأصدر يعمر بن عوف حكمه قائلاً ” ان قصياً أولى بالكعبة وأمر مكة من خزاعة ،وان كل  دمِ أصابه قصي من خزاعة وبكر موضوع يشدخه تحت قدميه ،(10) وانما أصاب خزاعة وبكر من قريش وبني كنانة و قضاعة ففيه  الدية مؤداة وان يُخلى بين قصي بن كلاب وبين الكعبة ومكة”.(11)

انه حكم غريب يُلفت الانتباه ويثير الدهشة! لماذا أستحق قصي أن يكون أولى بالكعبة ومكة على من كانوا سادة مكة قبله؟ ولماذا الدم الذي سفكه قصي من أعدائه موضوع لا جزاء فيه ولا ديّة، بينما الدم المسفوك من قصي وحلفائه – كنانة وقضاعة- ففيه الدية مؤداة ؟ هل كان كل ذلك دون سبب ولا حُجة ؟

   الجواب: كلا . الحكم كان مخالفاً للعُرف القائم آنذاك ،لكنه يُنبأ بأمر جديد يقرر الأولوية لقصي دون غيره.

   كان منطق يعمر بن عوف قائماً على أساس المال ، الذي أحدث تطوراً إقتصادياً اجتماعيا جعله – المال-  يؤثر في مجريات الواقع الاجتماعي في ذلك الوقت. ويمكن معرفة  ذلك مما ورد في الرواية التاريخية التي تعلل ذلك التطور المالي . فقد ورد انه ” لما هلك حُليل بن حُبشية الخزاعي  متولي الكعبة وامر مكة – وهو صهر قبن كلاب – انتشر ولد قصي، وكثر ماله وعظم شرفه، رأى أنه أولى بالبيت وبأمر مكة”.(12)

    والمفهوم من الرواية إن قصياً اكتسب هذه الأولوية من كثرة أموالِِه، وهذا ما عُبر عنه بـ ” عظم شرفه” وفي وصية قصي بسلطاته الى ولده البكر عبد الدار دليل على مفهوم كلمة الشرف هنا. فورد في الوصية ” لما كََبُر قصي وَرقّ ،وكان عبد الدار بكِره … وكان عبد مناف قد شرُفَ في زمان أخيه… فقال قصي لعبد الدار : أما والله لألحقنك بالقوم وان كانوا قد شرفوا عليك “.(13)

   أصبح واضحاً إن هنالك تغير قائم على القوة المالية التي أصبحت في المقام الاول للسيادة وان انتقال زعامة مكة الى قريش لم تستند على العُرف القبلي التقليدي والقائم على الغلبة الحربية فقط ، بل أصبح التطور الاقتصادي الاجتماعي الذي أحدثه المال يحكم منطق الأحداث ويغير معايير الأشياء ويؤثر في مجريات الواقع الاجتماعي الجديد. وفي نفس الميزان ووفق المنطق الجديد تم  تصنيف قريش إلى صنفين : الأول ” قريش البطاح” والثاني ” قريش الظواهر” . فكان الصنف الأول يشمل التجار والأثرياء، والصنف الثاني كان للفئات المتبدئة أو شبه المستقرة والتي لم تكن حالتها المادية حسنة.

   وما تقدم يمكن ان يسعف الباحث في تاريخ ظهور الاسلام ان المجتمع القرشي تكون ونشأ وفق التمايز المادي القائم على أساس الثروة وهي ماعبر عنه بعظم الشرف ،وهذا ما يوضح موقف قريش من الدعوة الاسلامية موقفا كان مفهومه المال والمكانة القائمة عليه حتى ظن اسياد قريش ان النبي (صلى الله عليه وآله) انما جاء ليسلبهم مكانتهم بين الناس القائمة على عظم الشرف- المال-.

        

(1) حسن إبراهيم حسن ، تاريخ الإسلام السياسي والديني والثقافي والاجتماعي،ج1،ص47.
(2)راجع: اليعقوبي ، تاريخ اليعقوبي ،ج1، ص 211.
(3) ابن كثير الدمشقي ،البداية والنهاية، ج2، ص 207.

(4)

(5)

بطح : البَطحُ : البَسطُ . وقيل بَطحاء الوادي تراب لينٌ مما جرّته السيول ،والجمع بطحاوات وبطِاحٌ . وبطحاء الوادي ، حصاه اللين في بطن المسيل . وبطحاء مكة وأبطحُها : معروفة لانبطاحها . وقريش البطاح : الذين ينزلون أباطح مكة وبطحاءها .

راجع : ابن منظور ، لسان العرب، مادة ” بطح “.

الظًّواهُِر : أشراف الأرض . وأراد بالظواهر أعلى مكة . وقريش الظواهر الذين نزلوا بظهور جبال مكة . وقريش البطاح أكرم واشرف من قريش الظواهر.

راجع : ابن منظور ، لسان العرب، مادة “ظهر “.

(6)راجع : المسعودي ، مروج الذهب، ج 2، ص32 .
(7)

راجع :- ابن سعد، الطبقات الكبرى،ج1، ص 70-71 .

– اليعقوبي ، تاريخ اليعقوبي ،ج1 ، ص210.

– المسعودي ،مروج الذهب ،ج2، ص32

– ابن كثير ، البداية والنهاية ،ج2 ،ص207.

(8)

يستدل على امتياز قريش البطاح عن قريش الظواهر، قول ذكوان مولى عبد الدار مفاخراً الضحاك بن قيس الفهري حين ضربه :

تطاولت للضحاك حتى رددته                   الى نسب في قومه متقاصر

فلو شاهدتني من قريش عصابة                 قريش البطاح لا قريش الظواهر.

 

راجع ابن سعد، الطبقات الكبرى، جـ1،ص71.

 المسعودي، مروج الذهب،جـ2، ص32.

وكذلك قول ابن منظور قريش البطاح اكرم واشرف في قريش الظواهر.

(9)راجع: ابن الأثير،الكامل في التاريخ، ج2،ص12.
(10)موضوع : أي مُلغى لا يستوجب الدية.
 

يشدخه تحت قدميه : شدخ، أي كسر، و الاستخدام هنا مجازي والمقصود به ،ان كل حق عن دماء القتلى يسقط فلا جزاء عليه.

راجع : الطبري ، تاريخ الامم والملوك ،ج2 ،ص 259

(11)

 البلاذري ، أنساب الأشراف ، ج1،ص85.

– الطبري ، تاريخ الأمم والملوك،ج2 ،ص 258.

(12)ابن سعد ، الطبقات الكبرى، ج1 ، ص68-69 .
(13)

الطبري ، تاريخ الامم والملوك ،ج2،ص259.