التحليل النفسي لشخصيات الزعماء ورؤساء الدول

التحليل النفسي لشخصيات الزعماء ورؤساء الدول

اهتمَّ الأمريكيون اهتمامًا كبيرًا بدراسة شخصيَّات الزعماء ورؤساء الدول الأجانب، وأُسْنِدت هذه المهمة إلى وحدة خاصَّة من وحدات وكالة المخابرات المركزية الأمريكيَّة، تتكوَّن هذه الوحدة من علماء نفسٍ وأطبَّاء نفسيين، مهمتهم وضْع “تصوُّر تشخيصي” نفسي، يعطي وصفًا مختصرًا لملامح شخصيَّة ونفسيَّة زعيمٍ ما، أو رئيس دولة ما، وهو ما يُعرف عادة بـ”البروفيل”، الهدف منه مساعدة صانعي القرار الأمريكي على فَهْم الكيفيَّة التي يُمكن أن يتصرَّف بها نظراؤهم في قضيَّة ما أو أزْمَةٍ ما، فيستخدم صانع القرار الأمريكي المعلومات المتوافرة عن الشخصيَّة التي يتعامل معها، بحيث تساعده في تكتيكات التفاوض، أو المساومة، أو الاستمالة، أو التهديد، أو في تحريك أزْمَةٍ ما.

 

أولاً: الفارق بين الدِّراسات التشخيصيَّة والدراسات الإكلينيكيَّة للشخصية:

يمزج المتخصصون في تصميم هذا “التصور التشخيصي” لشخصيَّة ما بين عِلْم النفس وعِلْم السياسة، ويشكِّلون منهما هجينًا أو فنًّا يسمونه “نفْسَنة رؤساء الدول عن بُعدٍ”، ويُميزونه هنا عن الدراسة الإكلينيكيَّة التي تحتاج إلى التعامُل مع هذه الشخصيَّة بصورة مباشرة، لا يلتقي مصمِّمُ هذا “التصور التشخيصي” بالشخصية التي يرسمها، ولا يُجري على عقل هذه الشخصية دراسة تُمكِّنه من فَهْم القلق أو الصراعات المكبوتة التي تَجري بداخله، إنما يفحص بعُمق كتابات ومُلاحظات هذه الشخصيَّة، ويعتمد على مصادر ثانويَّة تتعلَّق بحياته ومُقابلاته مع أُناس آخرين يعرفهم، ويبحث عنْ مفاتيحَ تَكشف له عن اتِّجاهاته ودوافعه السلوكيَّة.

 

ثانيًا: النظريتان الأساسيتان حول الكيفية التي تعمل بها السياسة الدولية:

هناك نظريتان تشرحان الكيفيَّة التي تعمل بها السياسة الدولية، ترى النظرية الأولى – وهي نظرية “الرجل العظيم” – أنَّ الشخصية القوية للرئيس هي المحرِّك لسياسته الدوليَّة، وترى النظرية الثانية أن شخصيَّة الرئيس ذات أهميَّة ثانويَّة إلى جانب العوامل الإستراتيجية والجغرافية والاقتصادية، ويرى الباحثون أنَّ فَهْمَ السياسة الدوليَّة في ضوء إحدى النظريَّتين غيرُ مُجدٍ، وأنه لا بدَّ من الجمْع بينهما؛ ففَهْمُ السياسة الدولية في ضوء شخصيَّة الرئيس لا يعطي صورة واضحة لهذه السياسة؛ لأنَّ الدوافع الشخصية قد تكون ثانوية في معظم الحالات، كما أنَّ النظرة إلى الرئيس على أنه صندوق أسود، وأنَّ سياسة الدولة لا تُفْهَم إلا وَفْق العوامِل الموضوعيَّة والمصالح القومية – نظرة تتجاهل دورَ الشخصية الفردية للرئيس.

 

ومن هنا عُنِي الباحثون بتوجيه اهتمام العلماء والأطبَّاء النفسيين إلى أنهم قد يُخطئون في تحليلاتهم إذا أسقطوا من اعتباراتهم السياقَ الإستراتيجي والجغرافي والاقتصادي، الذي يعمل الرئيس من خلاله.

 

ثالثًا: تركيز معظم الدراسات على تحليل الشخصية:

الواقع أنَّ معظم تحليلات شخصيات رؤساء الدول وغيرهم تركِّز على شخصية الرئيس، وكانت الوقائع التاريخيَّة تؤيِّد ذلك، فكان الأباطرة والجنرالات عبر القرون يحاولون معرفة ما الذي يَجري في عقول أعدائهم؛ يقول “نابليون”: “ليس هناك رجال مُحاربون في القتال، إنما هو الرجل…، ليس الجيش الروماني هو الذي عبر نهر الروبيكون، إنه القيصر”.

 

كما أكَّد المؤرخون دومًا دورَ الشخصيات العظيمة في إحداث التغيُّرات التاريخيَّة، كما كان التركيز على الشخص يجد تأييدًا عند الفلاسفة الأمريكيين، مثل: “رالف والدو إيمرسون” الذي كتَب في عام 1841 يقول: “إنه ليس من المناسب أن نقول: إنَّ هناك تاريخًا، هناك فقط سيرة ذاتيَّة”.

 

وفي العشرينيَّات والثلاثينيات من القرن الماضي وضَع “هارولد لازويل” أبو علم النفس السياسي أساسًا مهمًّا في التحليلات النفسيَّة للزعماء والقادة، يقول “لازويل”: “إنَّ القادة السياسيين يُسقطون حاجاتهم الشخصيَّة على الحياة العامَّة، ويُعطون عقلانيَّة لأفعالهم على أساس ما يُعْرف بالخير العام، باختصار: إنَّ القادة يَعكسون صراعاتهم اللاشعوريَّة ورغباتهم الداخليَّة على الواقع الخارجي، وحتى في الشؤون الدولية”.

 

وهناك أمثلة عديدة لدور شخصيَّات القادة والزعماء ورؤساء الدول في الشؤون الدولية، هناك شخصيَّة الزعيم الألماني “هتلر”، وشخصيَّة “هوشي منه”، وكذلك شخصيَّة “كاسترو”، و”جورباتشوف”، و”يلتسن”، وشخصيَّتي “السادات وبيجين”، و”صدام حسين”، و”الخميني”، وفي أيامنا هذه ما زالت شخصيَّة زعيم كوريا الشمالية “كيم آل سونج” وشخصيَّة ابنه “كيم جونج” تُهَدِّدان باندلاع حرب نوويَّة، لقد تركتْ هذه الشخصيات آثارًا كبيرة وخطيرة على السياسة الدوليَّة؛ ولهذا كانت دراستُها ووضْع تصورات تشخيصيَّة لها على درجة كبيرة من الأهميَّة.

 

رابعًا: أهمية تحليل شخصيَّات رؤساء الدول ذات النظام التسلُّطي:

تزداد أهميَّة وضْع تصوُّرات تشخيصيَّة لرؤساء الدول في الأنظمة التسلُّطية بالنسبة للأمريكيين، فهم يرَون أنَّ البرلمانات ووسائل الاتصال الإخباريَّة والأحزاب السياسية كلها أبواقٌ للرئيس، وأنَّ الجيش هو ذراعه الأساس؛ أي: إنَّ شخصية الرئيس هنا محوريَّة وذات تأثير قوي على سياسته الدولية.

 

إنَّ مزاج “فيدل كاسترو” على سبيل المثال يمكن أن يحدِّد أنه بإمكانه أن يُحارب حربًا شَرِسة إذا انهارتِ الشيوعيَّة الكوبيَّة، كما كانت عقليَّة “صدام حسين” تحدِّد إمكانية دخوله في حرب مع جيرانه ومع العالم، وهناك على مستوى الاتحاد السوفييتي “فلاديمير شيرونوفسكي” المفرِط في الاعتزاز بالقوميَّة، والذي كان يتحدَّث كثيرًا عن إذلاله الجنسي المبكر، فكان يعلن: “أنَّ عصر الوهن السياسي قد انتهى”، وهذا في رأي المحلِّلين الأمريكيين أمرٌ يعوق مَيْل روسيا نحو الديموقراطيَّة.

 

صمَّم الأمريكيون تصوُّرًا تشخيصيًّا لعقلية زعيم كوريا الشمالية “كيم سونج”، فرأوا أنَّ النظرة إليه رسميًّا تقوم على أساس أنه: المخلِّص، والأمل الأبدي، والأب المحب لكلِّ الشعب، ونجم الخلاص والمجد، والشمس العُظمى، والبطل القومي المنتصر دائمًا، والقائد الفولاذي العظيم…، ووصفَت “الواشنطن بوست” شخصيَّة “كيم الابن” – قائد رابع أكبر جيش في العالم – بأنه رجلٌ مدلَّل، وغير ناضج، يَميل إلى الحفلات الصاخبة، وإلى العنف، والعلاقات الجنسيَّة؛ قال مستشار الأمن القومي في إدارة بوش “برنت سكوكروفت” حينما طلَب قراءة التصوُّر التشخيصي لـ”كيم الابن”: “إنه رجل يحبُّ ضرْب النساء، ولا أرى فيه شخصيَّة مكتملة الرجولة؛ ولهذا يحاول أن يُثبت هذه الرجولة في تعامُله المتَّسِم بالقسوة للجيش، “تعني هذه التحليلات النفسية للأمريكيين أنه حينما تُوضَع حسابات الطبيعة النفسية لـ”كيم الابن” في الاعتبار، يتبيَّن أنه شخص متهوِّر، يُمكن أن يصل بالأزمة النوويَّة الحاليَّة إلى حدِّ الخطر”.

 

لكنَّ هناك رأْيًا آخرَ يرى أنَّ وكالة المخابرات يُمكن أن تؤدِّي خدمة نفيسة لصانع القرار، إذا كانتْ تصوراتها التشخيصيَّة أكثر دقَّة ومتجاوزة الحدودَ الدعائيَّة للزعيم الكوري؛ لأنَّ مثل هذه التصوُّرات يُمكن أن تؤدي إلى كارثة إذا لَم تكنْ حساباتها دقيقة، ويرى أصحاب هذا الرأي أنَّ سِجِلَّ الوكالة في هذا المجال ليس مشجِّعًا.

 

والحقيقة هي أنَّ هذه التصورات التشخيصيَّة لَم تصب نجاحًا كاملاً، كما لَم تصب إخفاقًا كاملاً، وكما أثْنى صانعو القرار السياسي على بعضها، هاجَمها آخرون بشدَّة.

 

خامسًا: نتائج غريبة للتحليلات النفسية:

مع ظهور التحليل النفسي لـ “سيجموند فرويد” تولَّد بُعدٌ جديد للـ”بيوجرافيا”، أو “السيرة أو السيرة الذاتية” تتمثَّل فيما يُعْرَف بـ”البيوجرافيا النفسيَّة”، وتعني: فَهْم ما يَجري في عقل شخصٍ ما من خلال دوافعه اللاشعوريَّة، ورغباته، وصراعاته الداخليَّة، وقد دشَّنَ “فرويد” بداية هذا المولود الجديد في دراسة له عام 1932 عن الفنان “ليوناردو دي فينشي”، كما اشتَرك “فرويد” مع آخرين في عام 1932 في تأليف مجلد عن “وودرو ولسون”، لكنَّ نتائج هذه التحليلات بَدَت مرتكزة على بيانات تأمُّليَّة وهزيلة بشدة، كما كانتْ بعض نتائج الجهود الأولى في التحليل النفسي للشخصيَّات التاريخيَّة غريبة.

 

في عام 1913 قام المحلِّل النفسي “هانز شاس” بتفسير حُلم رجل الدولة الألماني “أوتو فون بسمارك”، وتوصَّل إلى نتيجة مؤدَّاها: أنَّ وراء رغبات بسمارك في هزيمة النمسا وتحقيق وحدة ألمانيا خيالات عن انتصارات شهوانيَّة، وممارسة العادة السريَّة في الطفولة، وهذه نتائج يراها الباحثون غريبة.

 

سادسًا: تحليل شخصيَّة الزعيم الألماني “أدولف هتلر”:

سيْطَر التحليل النفسي الفرويدي على العلماء والأطبَّاء النفسيِّين في الولايات المتحدة بعد تدفُّق المهاجرين النمساويين والألمان إليها، وكانت شخصيَّة “أدولف هتلر” هي الشخصية التي استُخْدِم في دراستها البُعد الفرويدي الجديد، وفي عام 1942 أصدَر “وايلد بل دوفان” – رئيس مكتب الخِدْمات الإستراتيجيَّة في زمن الحرب OSS التابع لوكالة المخابرات – أمرًا سريًّا بدراسة شخصية “هتلر”، كان الباحث الرئيس في جماعة الدراسة هو المحلِّل النفسي “والتر لانجلر”، وصدرتْ نتيجة هذه الدراسة في عام 1972 بعد أن أُزِيلت منه صفة السريَّة تحت عنوان: “عقل أدولف هتلر”.

 

توصَّل “لانجر” إلى أنَّ “هتلر” كان “سيكوباتيًّا عصابيًّا”، “بمعنى أنه شخص منحرِف عن السلوك السوي، وسلوكيَّاته مضادة للمجتمع وخارجة عن قِيَمه ومعاييره، ومُثُله العُليا”.

 

أعاد “لانجلر” النظر بصورة شاملة في المعلومات الخاصة بـ”هتلر”، كما أجْرَى مقابلات مع الذين قابلوا “هتلر” شخصيًّا، أُجْرِيَت الدراسة في زمن الحرب ووَفْق فترة زمنيَّة محدَّدة، وهي لا تعكس بالطبع التطوُّرات المتلاحقة التي حَدَثت في علْم النفس، كما أنها لا تضمُّ تفاصيلَ عن هذا الجمع الهائل من الوثائق حول “هتلر”، ورغم هذا القصور في الدراسة، فقد كانتْ أشْبَه بكنزٍ ثمين يتضمَّن تفصيلات وتحليلات حول شخصيَّة “هتلر”، وبعض التنبُّؤات الدَّقيقة عنه.

 

بيَّنت الدراسة أنه كلما تعرَّضت ألمانيا لهزائمَ متلاحقة، زادَت عصبيَّة “هتلر”، وكانت كلُّ هزيمة له تُفقده ثقته بنفسه أكثر وأكثر، كان “هتلر” يَشعر بأنه غير محصنٍ، وكان يخشى من هجوم رفقائه عليه، وكان هذا سببًا في شدَّة غضبه، فكان يحاول تعويضه بالشدَّة والقسوة المتزايدة، ورأى الباحثون أنَّ “لانجر” كان مصيبًا في اعتقاده بأنَّ “هتلر” سوف ينتحر، لكنه لَم يكن هناك من دليلٍ على أن “روزفلت” وكبار القادة قد قرَؤوا تقرير “لانجلر”.

 

سابعًا: تحليل شخصية “نيكيتا خروشوف”:

شجَّعت دراسة “لانجر” وكالة المخابرات على الإشراف على تقويمات نفسية عرضيَّة خلال الخمسينيات والستينيات، كان أكثرها تأثيرًا هو هذا التحليل الذي أُجْرِي على شخصية “نيكيتا خروشوف” زعيم الاتحاد السوفييتي الأسبق، كان الرئيس “جون كيندي” مستغرقًا في قراءة “بروفيل خروشوف” قبل لقاء القمة معه في فيينا، وكما يصف المؤرِّخ “مايكل بيشلوس” في مؤلَّفه “سنوات الأزمة” أنَّ الوكالة حذَّرت “كيندي” من أنَّ القائد السوفييتي قد يحاول تضليله، وصَف التصوُّر التشخيصي “خروشوف” بأنه ممثِّل لاذع، لا يُمكن كبْح جِماحه، يوضِّح وجهات نظره بنوعٍ خاص من الدعابة الكبيرة، وهو في نفس الوقت مقامِر ومراوغ، وخبير في العديد من أوْجه الخداع، ولكن النُّقاد يرون أنَّ الدراسة أغْفَلت الجانب الآخر من شخصيَّة “خروشوف” المهمة، وهو أنه الإصلاحي الذي أنْهى الستالينيَّة، وبدأ في انفتاح الاتحاد السوفييتي على العالم الخارجي.

 

ثامنًا: إعجاب الرئيس “كيندي” بالتصورات التشخيصية:

كان الرئيس “جون كيندي” قارئًا شَرِهًا للتصورات التشخيصيَّة لرؤساء الدول، ويقول الخُبراء في ذلك: “عرف رجالات الوكالة أن اهتمامات الرئيس منصبَّة حول الأسرار الجنسيَّة للقادة الأجانب، وجذْب اهتمامه بصفة خاصة حادثة إطلاق رئيس البرازيل “جوا جولارت” النار على عشيق زوجته حتى الموت.

 

تاسعًا: التصوُّر التشخيصي لشخصيتي “السادات وبيجن”:

هناك تصوُّرات تشخيصيَّة نفسيَّة تقليديَّة برَزَت في سنوات “كارتر”،  ثَمَّن “كارتر” في مذكراته هذه التحليلات التي أُجْريت على الرئيس المصري “أنور السادات” ورئيس الوزراء الإسرائيلي “مناحم بيجين”، والتي ساعدتْه في الإعداد لمهمَّته التاريخيَّة في الوساطة في محادثات السلام في كامب ديفيد عام 1978، ظلَّت هذه التصوُّرات التشخيصية النفسية سريَّة حتى بعد وفاة أصحابها؛ يقول “وليم كاندر”: “إن بروفيل بيجين ركَّز على حِدَّته الشخصية، وركَّز كذلك على رغبته غير المشكوك فيها في الوصول إلى تسوية لقضايا بعيدة عن المحور الإيديولوجي؛ ولهذا كان الوصول إلى تسوية بخصوص سيناء التي تحتلها إسرائيل أمرًا ممكنًا، أمَّا الضفة الغربية فلا”.

 

استرجَع “كندي” عند إعداده لبروفيل “بيجين” إشارة تدلُّ على مُرونته، حتى في الأوقات العصيبة، تمثَّلت هذه القصة في جُرْأته حينما كان قائدًا لعصابة الأورجون الصِّهْيَونيَّة، أصرَّ “بيجين” أن يكون آخرَ مَن يترك السفينة الحربية “آلتالينا” التي اشْتَعَلت بنيران إسرائيليَّة، ولكنه وافَق بعد ذلك على مغادرتها بإلقاء نفسه منها في البحر.

 

عاشرًا: “جيرولد بوست” مهندس التصورات التشخيصية لكامب ديفيد:

كانت مجموعة الباحثين الذين وضَعوا التصورات التشخيصية للسادات وبيجن مجموعة غير معروفة كثيرًا، لكنَّها مجموعة أنشأتْها الوكالة في أواخر الستينيات، تحمل اسم “مركز تحليل الشخصيَّة والسلوك السياسي”، وعُرِفت أخيرًا بمركز علم النفس السياسي، وأُنْشِئت خصِّيصًا لتصميم تصورات تشخيصيَّة لخدمة صانعي القرار، أسَّس المركز وأشْرَف عليه “جيرولد بوست” الطبيب النفسي المدرَّب في “جامعتي ييل، وهارفارد” الذي حصَل على تدريب متقدِّم آخر في مدرسة “جونز هوبكنز” في الدراسات الدولية المتقدمة، كان “بوست ” هو الذي ألَّف وأدار التصورات التشخيصية لمباحثات “كامب ديفيد”، يعمل “بوست” الآن أستاذًا ومديرًا لبرنامج علم النفس السياسي في جامعة جورج تاون..، قضى “بوست” واحدًا وعشرين عامًا في الحكومة يعمل في تخصُّصه بجدٍّ واجتهاد، أدْخَل “بوست” المنهج التكاملي في تحليلات القيادة، جمَع فيه بين الأطبَّاء النفسيين، وعلماء النفس، وعلماء السياسة والمتخصِّصين في الثقافة وعلْم الأنثروبولوجيا.

 

اكتسَبت التصوُّرات التشخيصيَّة التي أشرَف عليها “بوست” سُمعة خاصة في أنها مُسلية، وليستْ جافَّة كتلك التحليلات الأخرى الخاصة بالوكالة، وقد وصَلت هذه التصورات التشخيصية إلى المستويات العُليا في الدولة، وعُرِف المعمل الذي يعمل فيه “بوست” داخل أرْوقة وكالة المخابرات بأنه “معمل السحر”، وكان ينظر إلى “بوست” نفسه على أنه ملاكم بيروقراطي عنيف، يعمل على تطوير مهنته، وطبقًا لِمَا يقول المدير الأسبق للوكالة “ستانسفيلد تيرنر” بأنَّ التصورات التشخيصيَّة لـ”بوست” – عن السادات بيجن – أسعَدَت كارتر، وهذا مما شجَّعه أن يطلب استمرارَ هذا العمل.

 

حادي عشر: إسهامات “بوست” التاريخيَّة:

كان “بوست” موضعَ تقديرٍ؛ لأن مدخله في دراسات القيادة كان أكثرَ جديَّة، كما أنه أشرَف على العديد من الدراسات على حالات فرديَّة بصورة مكثَّفة، وحاوَل أن يكشفَ الغِطاء عن الديناميات النفسيَّة للقائد أو الرئيس الذي يعمل في بيئة سياسيَّة، كما كان مهتمًّا بدراسة سلوكه وأشكال تفاعُلاته، ورغباته، وحاجاته الشعورية واللاشعوريَّة، هذا إلى جانب تركيزه على دراسة تاريخ الشخص، والأحداث الرئيسة التي عاشَها في طفولته وما وراءها؛ ولهذا فإن “بوست” أكَّد أهميَّة الحصول على معلومات كافية حول السنوات التشكيليَّة الأولى للقائد أو الرئيس، مؤمنًا بأهميَّة هذه المعلومات؛ ذلك لأن الهُويَّة السياسية للشخص تتكوَّن عادة في مرحلة المراهقة.

 

كان “بوست” يُعيد النظر في أحاديث القائد أو الرئيس، وملاحظاته، وكتاباته وقِيَمه، وحاوَل أن يحدِّد أهمَّ العوامل التي تحدِّد استجاباته، كما كان يرسم خريطة لأفعال القائد عبر الزمن: كيف كان القائد يتصرَّف في الأزمات الماضية؟ هل كان سلبيًّا؟ أو كان متهوِّرًا؟ ما هو ردُّ فِعله في المواقف الضاغطة؟ ما هي دوافعه الأساسية للحفاظ على السلطة؟ هل يريد القائد أو الرئيس أن يضعَ بَصمة لنفسه في سِجِلِّ التاريخ؟ هل يريد أن يكون محبوبًا أو معبودًا عند الناس؟

 

كان “بوست” يرى أنَّ الهدف هو تحديد اتجاهات وليس وضْع تنبُّؤات؛ يقول “بوست”: “إنَّك يمكن أن تجمع معلومات ضخمة عن شخصيَّة ما، بحيث تجد نفسك قد دخلْتَ في عقل هذه الشخصيَّة”.

 

ثاني عشر: “بوست” والتحليل النفسي لشخصية “صدام حسين”:

تعرَّض ما عُرِف بـ “مركز علم النفس السياسي” في وكالة المخابرات الأمريكية، أو “معمل السحر” المشار إليه سابقًا – لظروف صعبة أدَّت إلى إغلاقه والاستغناء عن بعض باحثيه وتقليص ميزانيَّته، وتحويل مهامِّه إلى وحدات أخرى؛ مما أدَّى إلى تأثُّر “بوست” بما جرى تأثُّرًا شديدًا، لكنَّه على الرغم من أنَّ “بوست” لَم يستطع أن يناقش تقاريره السريَّة منذ مغادرته الحكومة في عام 1986، فإنه كان قد درَس شخصيَّات مثل “ميخائيل جورباتشوف، وبوريس يلتسن، وسلوبودان ميلوسوفيتش، وفيدل كاسترو”، لكنَّ التصوُّر التشخيصي الذي وضَعه لـ”صدام حسين” خلال أزمة الخليج كان أكثرَ التشخيصات جذْبًا للاهتمام العام، ولَم يكن لهذا الاهتمام نظيرٌ منذ الاهتمام بالبروفيل الخاص بالزعيم الألماني “هتلر”.

 

جذَبت شخصية “صدام حسين” تخيُّلات الأمريكيين الذين رأوا أن تهديداته مشابهة لتلك التي كانت لـ”هتلر”، ونظروا إليه على أنه الديكتاتور الشِّرير، وكانت المادة الخاصة بصدام مكثَّفة في وسائل الإعلام، قدم “بوست” تصوُّراته عن “صدام” في شهادة له أمام الكونجرس، وكانت هذه الشهادة سببًا في تشجيع صانعي القرار على منْح السلطة لإدارة بوش في استخدام القوة ضد العراق.

 

وقد كانت وكالة مخابرات الدفاع DIA قد صمَّمت تصورًا تشخيصيًّا عن “صدام حسين” احتفظَت به الـ CIA كنسخة سريَّة، عَهِد إلى وكالة مخابرات الدفاع مهمَّة الوقوف على القدرات والمقاصد العسكرية العراقيَّة، وقبل يومين من إرسال صدام قوَّاته على حدود الكويت، قال “والتر لانج” أقدمُ المحلِّلين النفسيين المدنيين في مخابرات الدفاع عن شؤون الشرق الأوسط لرؤسائه: “إنَّ صدام جمَع قوَّات أكثر مما يحتاج إليها؛ لتخويف الكويت”، كما جاء في تقارير “بوب وودوارد”: “أنا نظرتُ إلى بروفيل شخصيَّة صدام، فوجدْتُ “أنه لا يعرف كيف يخدع..، ولا تُبيِّن أنماط سلوكيَّاته السابقة ذلك”، وبعد الغزو قدَّم “بوست” بروفيله عن صدام أمام مستمعيه من وكالة مخابرات الدفاع، مؤكِّدًا أنَّ “صدام” يُمكن أن يغيِّر رأْيه، قدَّم “بوست” وصفًا متقَنًا عن “صدام”، قال فيه: إنه يعاني من نرجسيَّة شديدة، “وهي اختلال خطير في الشخصية، سِمَتُها مبالغة متشدِّدة، وقسوة سادية، “حبُّ التعذيب والسيطرة والتحكُّم، وإذلال الآخر”، وافتقاد كامل للندم، كان صدام غارقًا تمامًا في ربْط نفسه مع “بُخْتنَصَّر” الملك البابلي الذي دخَل القدس، ومع صلاح الدين الذي أخرَج الصليبيين من القدس في 1110، ومع “جمال عبدالناصر” الذي أخرَج البريطانيين من مصر.

 

لقد نجَح “خير الله” عمُّ “صدام” في تشريبه منذ صِغَره كراهيةَ الأجانب والأيديولوجية البعثيَّة الانتقاميَّة للقوميَّة العربيَّة، وصَف “بوست” صدام بالقسوة وبسيطرة أحلام توحيد العرب تحت لوائه، “لكنَّه اعترَف بأنَّ “صدام” لَم يكنْ رجلاً مجنونًا، وحكَم عليه بأنه كان مُتسِقًا نفسيًّا مع الواقع، ولكنَّه سياسيًّا كان بعيدًا عن الواقع، وأبدَى “صدام” توافقًا مدهشًا عند الضرورة، خالَف نفسه على سبيل المثال عندما انسحَب من المناطق الإيرانية التي احتلَّها ووافَق على مشاركة مياه شط العرب المتنازَع عليها مع إيران…، إنَّ “صدام” سوف ينسحب فقط من الكويت إذا كان الانسحاب مشرِّفًا ومحافظًا على قوَّاته”.

 

تجنَّب “بوست” التنبؤات الحادة حول الكيفيَّة التي تنتهي بها الأزمة، وقال: “إن مواقف صدام المعاكسة هي التي تصدم القارئ”، رأى الكثيرون أنَّ بروفيل “بوست” يقوِّي الاعتقاد بأنَّ “صدام” يُمكن أن يتنازل عن موقفه في اللحظة الأخيرة، لكنَّه لَم يفعل ذلك، قال المسؤولون في إدارة بوش السابقة: “إنَّ حِسَّهم الباطني هو أن “صدام” لن يتراجَع تمامًا، ولكن بالأحرى سوف ينسحب انسحابًا جزئيًّا، بحيث يخترق تجمُّع الحلفاء ضده”.

 

وكان رأي “سكاوكروفت” – كما جاء في مُذكراته – بأنه: “ليستْ واحدة من التصورات التشخيصية لصدام تتَّسق مع شخصيَّته؛ ولهذا فإنَّ جورج بوش – كما يرى “بوست” – استبعَد أن يُغادر “صدام” الكويت؛ حفاظًا على ماء وجْهه، وأنه لن ينسحبَ إلاَّ مُجبرًا ومُصابًا بالخِزي”.

 

ثالث عشر: “بوست” والتحليل النفسي لشخصية “بوريس يلتسن”:

تتبَّع “بوست” تاريخ الزعيم الروسي “بوريس يلتسن” منذ الطفولة، فقال: “كان يلتسن يعرف نفسه عبر هؤلاء الذين يعارضونه”، ويؤكِّد “بوست” أنه قد وجَد هذه السِّمة عند “يلتسن” عبر تحليله لسيرته الذاتية…، وأنه – أي  يلتسن – رجل متعجرِف لا يُطيق معارضة أحدٍ له، وينظر إلى متحدِّيه على أنهم أغبياء، كما ظهَر اتجاهه التسلُّطي بصورة واضحة في مواجهته الدموية لمعارضيه في البرلمان الروسي”.

 

رابع عشر: انتقادات “روبرت جيتس” للتصورات التشخيصية:

انتقَد “روبرت جيتس” – المدير السابق لوكالة المخابرات المركزية، ووزير الدفاع الحالي – التصورات التشخيصيَّة بقوله: “إنَّ محاولة تشخيص حالة شخصٍ ما يَبعد عنك خمسة آلاف ميل، والذي لَم تره أبدًا، لا يُعطيك الإحساس بالثقة في هذه المحاولة، إنه ليس من الأخلاقي أن تقدِّم رأْيًا إكلينيكيًّا على الملأ، إذا لَم يكن الطبيب النفسي قد فحَص الشخص وحصَل على تصريح بذلك”.

 

خامس عشر: رد ” بوست” على انتقادات “روبرت جيتس”:

حاوَل “بوست” أنْ يردَّ على الانتقادات الموجهة إلى التصورات التشخيصيَّة النفسيَّة من أنَّ نتائجها قد لا تكون صحيحة؛ لأن التفاعل مع الشخصيَّة موضع التحليل يَفتقد إلى الاتصال الشخصي؛ يقول “بوست”: “إنَّ ذلك ميزة وليس عيبًا؛ ذلك لأن الاتصال الشخصي قد لا يُحقق التوازن في التحليل، فالمحلِّل النفسي حتى لو كان مدرَّبًا، فإنه يمكن أن ينخدَع بالجاذبيَّة المظهريَّة، والخداع المحسوب للسياسي المتمرِّس، ومن غير المحتمل أن تُعطي المقابلات مع مثل هذه الشخصية أضواءً مهمَّة على شخصيَّة الرئيس، إضافةً إلى ذلك فإنَّ الاتصالات الشخصيَّة في فترة ما من حياة الرئيس قد تكون مخادعة في فَهْم شخصيَّته فيما بعد؛ ولهذا يرى “بوست” وزميلُه السابق “هويتاكر” أنَّ المقابلات المكثَّفة مع الرؤساء المعروفين يُمكن أن تُقَلِّل من التحيُّزات، كما تُمَكِّن هذه المقابلات المكثفة من فَهْم نمطِ شخصيَّة الرئيس.

 

سادس عشر: الثورة على منهج “بوست” وظهور منهج “اللسانيات النفسيَّة”:

من المعروف أنَّ “بوست” هو الأب المؤسِّس ورائد البروفيل النفسي الحديث، لكنَّ علماء نفس أكاديميين آخرين من المتعاقدين مع الحكومة الأمريكية، تحدَّوا منهجيَّة “بوست”، وقاموا بتصميم تصوُّرات تشخيصيَّة سريَّة جديدة دون الاعتماد على الديناميات النفسيَّة القائمة على إكلينيكيَّة  “بوست”، لَم يهتمُّوا كثيرًا بالبحث في جذور سلوكيَّات الشخصية المبحوثة، فقد تركَّز اهتمامهم على ما يُعْرَف بمنهج “اللسانيات النفسية” الذي يُعنى بالفحْص الدقيق لِمَا يَصدر من الشخصيَّة من بيانات شفهيَّة ومكتوبة، في محاولة لوضْع خريطة عن عقل هذه الشخصيَّة.

 

رأى المدافعون عن هذا المنهج الجديد أنه أكثر موضوعيَّة وتنظيمًا عن البيوجرافيا النفسيَّة “عند بوست”:

اعتمَد المتخصصون في “اللسانيات النفسية” على التركيز على الخطابات الحديثة التي يُدلي بها الرؤساء الأجانب، وكذلك لقاءاتهم مع غيرهم، وكانوا يستخدمون دليلاً كُودِيًّا مشتقًّا من علْم النفس التجريبي؛ للحصول على معلومات أو إعداد بيانات عن الشخصيَّة موضع الدراسة.

 

يعتمد منهج “اللسانيات النفسية” على الكمِّ بصفة كبيرة؛ يقول أحد رُوَّاد هذا المنهج وهو “دافيد وينتر” من جامعة ميتشجان: “أيًّا كانت انطباعاتنا عن الشخص، نحن نذهب إلى الأرقام، وبعد أن نُحصي بيانات القائد، فإننا نقارنها ببيانات عشوائيَّة من القادة العالَميين من الثقافات المختلفة والأنظمة السياسية المختلفة”.

 

رتَّب “وينتر” القادة وَفْق تصورات بلاغيَّة من ثلاثة عوامل، هي: الإنجاز، والقوَّة، والانتماء، ويمكن عن طريقها وضْع تنبُّؤات مشروطة حول الأفعال المستقبليَّة للشخصيَّة؛ على سبيل المثال: يحاول واضِعُ التصوُّر أن يقيس ميلَ القائد إلى العُنف ضدَّ بلدٍ آخر، بتحديد ما إذا كان دافع القوة يرتفع أو لا يرتفع خلال خطاباته، طبَّق “وينتر” هذا المنهج على اثنين وعشرين من رؤساء جنوب إفريقيا وأعضاء مجلس الوزراء، وقادة حرب العصابات في دراسة أُجْرِيَت لصالح الحكومة الأمريكيَّة.

 

سابع عشر: تطبيق منهج “اللسانيات النفسية” على “الخميني” و”رافسنجاني”:

استخدَمت الحكومة منهج “اللسانيات النفسية”؛ لمحاولة التنبؤ بِمَن سيخلف الخميني الحاكم الأعلى في إيران؛ يقول “والتر وينتروب” الطبيب النفسي بجامعة ميريلاند الذي كان قد خَدَم كمستشار لوكالة المخابرات: “هناك تصوُّرات تشخيصية نفسيَّة عديدة، استخَدمت أنواعًا مختلفة من تحليل المضمون، كلها استنتَجَت أنَّ الذي سيخلف الخميني هو “هاشمي رافسنجاني”.

 

أشارَتْ بيانات “رافسنجاني” إلى تمتُّعه بقدرة عالية على استمالة الجماعات الإيرانية المختلفة بالمقارنة مع منافسيه، كما أظهَر “رافسنجاني” أيضًا قدرًا أعظمَ من الثقة والاستقلالية، كما ظهَر في استخدامه المستمر للضمائر الشخصيَّة “أنا” ورغبته في إعطاء تعليقات تلقائيَّة.

 

ثامن عشر: تطبيق منهج اللسانيات النفسية على” دي كليرك ” رئيس جنوب إفريقيا الأسبق:

استخَدم “وينتروب” منهج “اللسانيات النفسية”؛ لمعرفة ما إذا كان رئيس جنوب إفريقيا الأسبق “دبليو دي كليرك” سيلتزمُ بإصلاحاته في إلغاء التمييز العنصري أم لا، وكشَف التحليل الدقيق للبيانات وَفْق هذا المنهج تكلُّفًا وانحرافًا محدودَيْن في أنماط أحاديث “كليرك “، كما تَبيَّن أيضًا أنَّ أهدافه الإصلاحية لَم تكن متهوِّرة، وكانت جديَّة بدرجة عالية؛ يقول “وينتروب”: “إنَّ أحد إشارات ذلك هي الميْل العالي لاستخدام حروف أو استدراكات متزامِنة، مثل: و”لكن”، و”مع ذلك”، و”على العكس من ذلك”.

 

تاسع عشر: التصورات التشخيصية النفسية بين الثناء القليل والقدح الكثير:

الواقع هو أنَّ بعض الرؤساء الأمريكيين كانوا يعتمدون بصورة روتينية على التصورات التشخيصيَّة النفسية لنُظرائهم من الرؤساء قبل الالتقاء بهم، من هؤلاء الرؤساء “جيمي كارتر” الذي ازدادَ ولَعُه بها بعد معاهدة كامب ديفيد، وكذلك النجم السينمائي السابق “رونالد ريجان”، الذي كان يشاهد منها ما يخصُّ “جورباتشوف”، و”بيجن” في شكل فيديو وعلى أنغام موسيقا مزاجيَّة، ويقول “فرانك كارلوسي” مستشار الأمن القومي السابق، ووزير الدفاع السابق عنها: “إنها تصنع أفضل قراءة لأي شيءٍ”، كان السياسيون يريدون بصفة عامة أن يعرفوا عن معارضيهم كلَّ شيء، ووصَفها البعض بأنها أشْبه بالطعام الشهي المحاط بالقِيل والقال.

 

ويرى الباحثون أنَّ صانعي القرار هم أقلُّ الناس اهتمامًا بالتفاصيل الدقيقة عمَّا تَكْشفه تقارير التصوُّرات التشخيصيَّة النفسيَّة للرؤساء، إنهم يريدون فقط معرفة كيف سيَتَصرَّف الرؤساء في أزمةٍ ما، وما هي الدوافع التي تقودهم في المفاوضات، يريد أن يعرف المسؤولون مَن هؤلاء الذين يتعاملون معهم، لقد كشَفت النقاشات السابقة مع المسؤولين أنهم يشكُّون بشدة فيما قرؤوه منها، كما يشكُّون في فائدتها ودرجة صِدقها، ويرون أنَّ إسهاماتها في صوْغ السياسة ليستْ متواضعة فقط؛ بل هامشيَّة.

 

كما ازدَادت حِدَّة الانتِقادات التي وُجِّهت إلى التصورات التشخيصيَّة النفسية، هذا “بيتر رودمان” المساعد الأسبق لوكالة المخابرات، يقول: “إنَّ هذه التصورات التشخيصية مُسَلِّية، لكنها غير دقيقة، بحيث لا يمكن أن تكون أساسًا لعملٍ ما”.

 

يقول المسؤولون في إدارة “بوش” السابقة: “إنَّها لَم تكن مفيدة، وهي أشبه بنتائج اختبار “رورشاخ – بُقع الحبر”، التي يمكن أن يفسِّرها القُرَّاء بأي طريقة يختارونها، أمَّا الرسميون المعاصرون على اختلافهم، فيَصِفونها بأنها عامَّة جدًّا، وبيروقراطية جدًّا، ومليئة بالتحذيرات وبالثَّرْثَرة.

 

من بين الانتقادات التي وُجِّهت إلى التصورات التشخيصيَّة النفسية: أنها تُعطي صاحب القرار إحساسًا متضخمًا عن الشخصية التي يقرأ عنها، وتَجعله يهتمُّ بمسائلَ شخصيَّة، ويُهمل عوامل أساسيَّة على المستوى السياسي والإستراتيجي، كما اتَّهمَ نُقَّاد آخرون هذه التصوُّرات بأنها تُثَمِّن بدرجة كبيرة العوامل الفرديَّة، وتُقَلِّل من أهميَّة المتغيرات الموقفيَّة، وبالتالي لا تضع في حُسبانها أنَّ الشخصية – محل البحث – يُمكن أن تذعنَ للحركات الأمريكية دون الحاجة للتنبُّؤ.

 

ومن أهمِّ الانتقادات التي وُجِّهت لهذه التصورات التشخيصيَّة النفسيَّة أنَّها تعاني من مشكلة التحيُّز الثقافي؛ إذ كيف يمكن لعالِم أو طبيب نفسي غربي أن يُطبِّق نماذجه على شخصيَّات تنتمي إلى ثقافات غير غربيَّة؟!ولهذا كان “فاميك فولكان” الطبيب النفسي بجامعة فيرجينيا الذي ألَّف عن البيوجرافيا النفسيَّة لـ”كمال أتاتورك” يشكُّ في أنَّ سِمات “صدام حسين” التي حدَّدها “بوست “، وقال فيها: “إن القول بأن (صدام) يُعاني من “نرجسيَّة شديدة” قد يكون صحيحًا، لكنَّه – أي ” بوست” – لَم يكنْ حَذِرًا في أنَّ هذه السِّمة قد تمتدُّ إلى الثقافة العربية، فتبدو وكأنها نرجسيَّة”.

 

كان الذين يقرؤون التصورات التشخيصيَّة يُعانون من ضغوط كثيرة، حينما يكون الأمر متعلقًا بتغيير في السياسة، ووجَد “جيتس” أنَّ الاستدلالات النفسيَّة لهذه التصورات ذات استخدام قليل بالنسبة لصانعي القرار.

 

عشرون: أمثلة على بعض النماذج التي أثارت فيها تقارير جهاز المخابرات انتقادات حادة:

1- حالة الزعيم الهاييتي “جان بيرتراند أريستيد”.

في العشرين من شهر أكتوبر 1993 وصَلَت مذكرة من إدارة المخابرات المركزية الأمريكية إلى الكونجرس الأمريكي تحتوي على تصوُّر مُقْلق عن رئيس هاييتي المبعَد “جان بيرتراند أريستيد”، زعَمَت المذكرة أنَّ تاريخ “أريستيد” بيَّن أنه كان يُعاني من مرض عقلي، وكان عُرضة لاكتئاب جنوني، وميْل إلى العُنف، وأنه كان قد تلقَّى علاجًا طبيًّا نفسيًّا في مستشفي مونتريال في عام 1980، في نفس اليوم توجَّه السناتور “جيللي هيلمز” ممثِّل نورث كالورينا الذي كان قد طلَب المذكرة؛ ليُعلنَ أنَّ “أريستيد” شخصٌ سيكوباتي مضطرب العقل.

 

أنكر”أريستيد” التقرير الذي جاء بخصوصه، ووجَّه الرئيس “بيل كلينتون” ونائبه “آل جور” توبيخًا فوق العادة للوكالة..، وصَف “كلينتون” و”آل جور” دراسة الوكالة بأنها غير موثقة ومبنيَّة على معلومات قديمة، وتتناقَض مع سِجِلِّ “أريستيد” كرئيس، وقال “كلينتون”: إنَّ تقرير الوكالة فَشِل في أنْ يقفَ على حقيقة أن “أريستيد” كانتْ له اتِّصالات مكثَّفة مع المسؤولين الأمريكيين في واشنطن التي عاش فيها لمدة عامين، وقال: “أنا لا أوافق مع الاستنتاج الذي رُسِم حوله، وأرى أنَّهم وضعوه على أدلة غير كافية”.

 

التصوُّر الذي وضعتْه الوكالة عن “أريستيد” أدَّى إلى تشويه سُمعتها إلى درجة بعيدة؛ قالت صحيفة “النيويورك تايمز”: “إنها اكتشفَت أنَّ الوكالة كانتْ تدفع لقادة الانقلاب العسكري وهم أعداء لـ”أريستيد”؛ للحصول على معلومات، وتَبيَّن للوكالة فيما بعد أن تقريرَها عن “أريستيد” قد شوَّهته علاقتها بمعارضيه الذين أطاحوا به، كما نشَرَت صحيفة “ميامي هيرالد” بعد ذلك تقريرًا فنَّدَت فيه مزاعم خضوع “أريستيد” للعلاج الطبي النفسي في كندا، بعد أن حصَلت على تصريح منه؛ لمراجعة سِجِلاته الطبيَّة؛ يقول “صمويل لويس” رئيس فرع تخطيط السياسات في وزارة الخارجية: “كان يجب على الوكالة أن تراجِعَ المزاعم التي ادَّعتها عن حالة “أريستيد” العقلية.

 

إنَّ الوكالة لَم تبذُل أيَّة جهود في مقابلة الناس الذين كانوا قد تَقَابلوا مع “أريستيد” عبر السنتين الماضيتين الأخيرتين، لقد وضَع المسؤولون في الوكالة رأيًا محددًا عنه، وأنا أعتقد أنهم شعَروا بأنه ليستْ هناك حاجة لإثباته، لقد كانت تصورات الوكالة سطحيَّة في حقيقتها ومكثَّفة في تأمُّلاتها، لقد كانت أقربَ إلى اغتيال شخصيَّة أكثر منها تحليل لشخصيَّة”.

 

عندما تسرَّبت الأنباء عن الاستقرار العقلي لـ”أريستيد”، فتَحَت الطريق للعديد من التساؤلات عن هذا اللغز وحقل البحث السري المسمى بـ”البروفيل النفسي”، كان علماء النفس والأطباء النفسيون العاملون في وكالة المخابرات المركزية يُجرون العديد من الدراسات على شخصيَّات رؤساء الدول الأجنبيَّة التي تهوِّن كثيرًا من شأْنهم، كانت نتائج دراساتهم مُصنفة على أنها سريَّة، وكانت الوكالة تمنع باحثيها من مناقشة أعمالهم على الملأ، ومع ذلك فإن العشرات من اللقاءات مع العديد من صانعي السياسة والرسميين من رجال المخابرات أكَّدت أن مشروع التصورات التشخيصيَّة النفسية الحكوميَّة والأكاديميَّة يحتاج إلى مراجعة، وأنَّ هذا المشروع مشكلة في حدِّ ذاته، وقال “روبرت باستر” الباحث المتخصص في شؤون أمريكا اللاتينيَّة: “إنَّ المشكلة ليستْ مشكلة “أريستيد” وحْده، لقد كنتُ أحاول مراجعة المعلومات البيوجرافية بطرقٍ غير مباشرة، وتَبيَّن لي أنَّ أكثر من نصفها خاطئ.

 

إن وكالة المخابرات قد تقف جامدةً أمام معلومات تتعلَّق بما إذا كانت الشخصية موضع البحث متعلِّمة أم لا، وما إذا كان صاحبها متزوِّجًا وله أطفال أم لا”.

 

لقد دمَّرت حالة “أريستيد” سُمعة المشروع في الإدارة الأمريكية والكونجرس، وكانت النتيجة هي نقْل موظفي هذا المشروع إلى وحدات أخرى، كما خُفِّضِت ميزانية المشروع، وازدَادت الشكوك حول فائدة التصورات التشخيصية النفسية ومدى دقَّتها في تحليل الشخصية؛ قال أحد كبار موظفي المخابرات الذي طلب عدم ذِكْر اسمه حديثًا: “إنَّ هذا المشروع يُعَدُّ من أضعف وسائل التحليل لشخصيات الرؤساء، وأنا لا أثقُ فيه كثيرًا”.

 

2- حالة “اليسبرج” موظف الوكالة:

ساءَت سُمعة وكالة المخابرات المركزية في أوائل السبعينيات بسبب التصورات التشخيصيَّة التي قامتْ بها، طلبت وحدة في البيت الأبيض في عهد إدارة “نيكسون” من مكتب الخِدمات الطبيَّة أن يُعِدَّ تقويمًا نفسيًّا سريًّا عن “دانييل إليسبرج” الموظف في مجلس الأمن القومي الأسبق NSC؛ لأنه سرَّب أوراقًا تخصُّ البنتاجون عن جذور تورُّط الولايات المتحدة في فيتنام، وافَقَت الوكالة على هذه المهمة، بالرغم من أنَّ هناك حظرًا على أن تتدخَّل في أمور داخلية تخصُّ الوكالة ذاتها، كانت الحملة في اتِّهام “إليسبرج” تسير في طريقها دون دليل، انتقَد البيت الأبيض التصوُّر التشخيصي الأول الذي أعدَّته الوكالة عن “إليسبرج”، ووصفتْه بأنه سطحي ومُرْبِك وغير كافٍ، كما قال “إليسبرج” نفسه: “إنَّ تقارير الوكالة هنا كانتْ خاطئة، وأنها أساءَت فَهْمَ أحداث مهمَّة في حياته، وكرَّرت أخطاءً ظهَرت في الصحف، استخدمَتْها الوكالة في كتابة تقريرها عنه”.

 

3- حالة “شاه إيران”:

كانت هناك أخطاء واضحة في تقرير الوكالة عن “شاه إيران” الذي أُجرِي في السبعينيات، كلَّفت الحكومة عالِم النفس الأمريكي والأستاذ في جامعة كولومبيا “روبرت جيرفتز” بإجراء دراسة تكشف عن الأسباب التي أدَّت إلى إغفال الوكالة الإشارات الدالة على سقوط الشاه، ولَمَّا رُوجِعَت تحليلات “بوست” وتصوُّراته الشخصيَّة، وُجِد أنَّه أغفَل نقطة مهمَّة وهي تردُّد الشاه وعدم إحساسه بالأمن، وعدم رغبته في نفس الوقت في تعبئة قوَّة كبيرة لإخماد الثورة، كما أغفَلَت الوكالة التأثير النفسي لإصابة الشاه بمرض السرطان الذي أخفاه عن الآخرين، وكان يتلقَّى بسببه علاجًا كيماويًّا في دولة حليفة له وهي “الولايات المتحدة”، كل هذه العوامل تسبَّبت مع أشياء أخرى في إضعاف قرارِ الشاه أن يبقى مكانه.

 

4- انتقاد “جيتس” لرأي الوكالة في تحليلها القاصر لشخصيَّة “الخميني”:

يقول “جيتس”: “إنَّ التصور التشخيصي لـ”الخميني” أظهَر أنه رجلٌ أصولي ديني، والواقع هو أنَّ الخميني له “أجندة سياسيَّة”، والذي يمكن فَهْمه في ضوء هذه الأجندة أن الذي كان يحرِّكه هو الدافع الطائفي الشيعي”.

 

5- انتقاد التصور التشخيصي للوكالة عن “ليونيد بريجنيف”:

صوَّر تقرير الوكالة الذي خصَّصته لتحليل شخصيَّة “ليونيد بريجينيف” – سكرتير الحزب الشيوعي السوفييتي، والذي ركَّز على سنوات حياته الوسطى – على أنه “مهرِّج”، لكنَّ مستشار الأمن القومي في عهد إدارة “فورد” قال: “إنه قابل بريجينيف، فوجَده رجلاً ماهرًا، وذا إرادة على عكس ما جاء في تقرير الوكالة”.

 

6- حالة “هوشي منه”:

غالَى التقرير الذي كتبتْه الوكالة في حقبة الخمسينيات في تبنِّى “هوشي منه” قائد فيتنام الشمالية للفلسفة الماركسيَّة، وأساء فَهْمَ غَيْرته القوميَّة؛ يقول “بيل كورسون” – الذي عُيِّن في وحدة العمليَّات الخاصة للوكالة – في مذكراته: “إنَّ أحاديث “هوشي منه” تُبيِّن أنه كان مشدودًا إلى إعادة توحيد فيتنام وتحريرها من السيطرة الأجنبيَّة، ولكنَّ التصوُّر التشخيصي للوكالة كان يرفض ذلك، وينظر إليه على أنه شيوعيٌّ من الدرجة الأولى”.

 

7- انتقاد “جورج شولتز” لتقرير الوكالة عن الوزير السوفييتي “تيكنوهوف”:

انتَقَد “جورج هولتز” وزير الخارجية الأمريكي الأسْبق أخطاءَ التصورات التشخيصيَّة للوكالة؛ قال “شولتز” في مذكراته: “صوَّرت الوكالة الوزير السوفييتي  “نيكولاي تيكنوهوف” على أنه رجل عجوز، ترتعش أطرافه بحُكم المرض، ويَشغل منصبًا مرموقًا بلا قُدرة على الفعل، لكنني عندما قابلتُه بالسفارة السوفييتيَّة بـ”نيودلهي”، وَجَدْتُه شخصًا حيويًّا متحمِّسًا، يُعِدُّ نفسه لحوار معي بكلِّ ما لَدَيه من حيويَّة…، لقد كنتُ مرتاعًا تمامًا بسبب ما جاء في تقرير مُخابراتنا”.

 

حادي وعشرون: محاولات تصحيح أخطاء التصورات التشخيصية:

الواقع أن موقعَ علْم النفس في السياسة الخارجيَّة الأمريكيَّة أصبَح موضِعَ جدلٍ ونقاش، لا يثق العديد من صانعي القرار الأمريكيين في الآراء الذاتيَّة للعلماء والأطباء النفسيين، كما أنهم يخشون في نفس الوقت حدوثَ قضايا مُحيِّرة تحتاج إلى وجود تصوُّرات تشخيصية هم في حاجة إليها، حتى إنَّ أكبر المُشَكِّكين فيها، مثل: “سكوكروفت” يعتقد أنَّ “التصور التشخيصي” أو “البروفيل” هو شيء مُريح يصلح للتعرُّف على شخصيَّة رئيسٍ ما، وهو دليل للفعل؛ سواء على المستوى الشعوري أو اللاشعوري.

 

ولهذا يرى الباحثون أنه طالَما لا يُمكن التخلي عن هذه التصورات التشخيصيَّة النفسية – رغم عيوبها – فيجب العمل على تحسينها، وأنه يجب على وكالة المخابرات أن تعترفَ بالمشاكل الناتجة عنها.

 

دافَع “جيمس ويسلي” – مدير الوكالة السابق – عن التصورات التشخيصية، وطالَب بتجديد الجهود الخاصة بمراجعة الحقائق عنها بصورة مُنَسَّقة ومكثَّفة، وبواسطة متخصصين من خارج الوكالة أيضًا، ومن أُناس يعرفون الشخصيَّة موضِعَ الدراسة عن قرْبٍ، وطالَب الوكالة بألا تتمسَّكَ بتصوُّراتها الخاصة عن مثل هذه الشخصيات دون مناقشة، بحيث يمكن تجنُّب الأخطاء التي قد تنتج عن سوء التحليل، كما طالَب أيضًا بأن تضَعَ التحليلات في اعتبارها السياقَ السياسي والثقافي الذي تعمل الشخصيَّة من خلاله؛ حتى لا يشكو المسؤولون من أيَّة أمورٍ قد يُفاجَؤون بها عند مقابلة رئيسٍ ما.

 

ويرى الباحثون أيضًا أنه يَجب أن يميِّز التصوُّر التشخيصي لشخصيَّة ما بين الحَدْس والحقيقة، ويجب إدراك أنَّ التصور التشخيصي هو واحد من عدَّة وسائل أخرى لفَهْم شخصيةٍ ما، كما يجب الحذَرُ عند وضْع هذا التصور من أن يُصاغ في صورة عقلانيَّة بَحْته تغفُل التأثيرات اللاعقلانيَّة على سلوكيَّات هذه الشخصيَّة، أمَّا بالنسبة إلى صانع القرار، فيجب ألا يحاوِلَ دفْعَ الوكالة إلى أن تضعَ تنبُّؤات دقيقة عن الشخصية موضع التحليل، إذا كانت المعلومات الضرورية اللازمة عنها غير متوافرة بدقَّة؛ ذلك لأنَّ مثل هذه الضغوط قد تدفع مصمِّمي هذه التصوُّرات التشخيصيَّة إلى عدم تحمُّل المسؤولية عنها، كالحال إذا طَلَب منهم تحديدَ كيفيَّة استجابة “كيم وابنه” للضغوط الغربيَّة.

 

وينتهي الباحثون إلى القول بأنَّ التصوُّرات التشخيصية النفسية إذا كانتْ مُصاغة بصورة جيدة، فإنها يُمكن أن تساعد صانعي القرار في حالات الأزمات وإجراء المفاوضات، أمَّا إذا لَم تكن مُصاغة بصورة جيدة، فإنها قد تتسبَّب في تشويه المعلومات، وتؤثِّر على قرار السياسي أو المسؤول، لكن الأمر الواضح هنا هو أنه طالَما أنَّ صانعي القرار ما زالوا يطلبون هذه التصوُّرات التشخيصية النفسية، فيجب أن يَعترفوا بأنَّ الوكالة تعمل في الاتجاه الصحيح.

 

هذه هي خلاصة تجربة وكالة المخابرات المركزية الأمريكية مع مشروع تحليل شخصيَّات الزعماء والقادة، وهو إحدى وسائل التجسُّس التي تستخدمها المخابرات المركزية الأمريكية إلى جانب العديد من وسائل التجسُّس الأخرى.

 

يقول اللواء الرُّكن “مهند العزاوي” بمركز صقر للدراسات العسكريَّة والأمنية: “إنَّ هذا النوع من التجسُّس استُخْدِم مع الزعماء العرب بهدف الوقوف على حالتهم النفسيَّة، وجمْع معلومات كاملة عن شخصيَّاتهم من جميع جوانبها؛ كالتعصُّب الديني، والإحساس الحاد بالكرامة والكراهية، وتماسُك قُواهم العقليَّة في اتِّخاذ القرار، هذا إلى جانب ما يُعْرَف بالتجسُّس الفرويدي، وهو تقمُّص أحد عناصر المخابرات دورَ هذا الزعيم أو القائد أو الرئيس؛ وَفْقًا لتقارير الحالتين النفسية والصحية، ويبدأ التفكير بدلاً منه، ثم يتَّخذ عدة قرارات تنبُّؤية يجري اختيار أي منهما أكثر احتمالاً.

 

أمَّا وجهة نظرنا فيما سَبَق كله، فنختصرها فيما يلي:

أولاً: أن هذا التضخيم الهائل في دور التحليلات النفسية وما تؤدِّيه من خدمات لجهاز المخابرات المركزية الأمريكية، يحتاج إلى إعادة نظرٍ، فقد ثبَت لَدَينا أن حجْمَ الانتقادات التي وُجِّهت إليها أكثر من حجم الثناء عليها، وما نُضيفه هنا قد يصدم القارئ، وهو أنَّ علم النفس بكامله ليس إلاَّ أسطورة قد انْطَلَت علينا، ونستدلُّ على ذلك بما جاء في كتاب “أزمة علم النفس المعاصر”؛ للبروفيسور “جيمس ديز James Deese” أستاذ علم النفس بجامعة “جونز هوبكنز” بالولايات المتحدة؛ يقول “ديز”: “إنَّ السحر والخداع شائعان جدًّا في علم النفس وفي نظريَّاته، فالنظريَّات النفسيَّة القديمة ليستْ علميَّة ولا يوجد أحدٌ – حتى من طُلاب علم النفس – يؤمِن بصحتها، وهذا في حدِّ ذاته دليلٌ على عجزها وعدم جَدواها، أمَّا النظريات الحديثة، فإن الكثيرين يجدون فيها من الأمور الخاطئة مما يدعم الادِّعاء القائل بأنَّ: “علينا أن نتخلَّى كليَّة عن الجُهد العلمي في علم النفس، والاعتراف بأنَّ علم النفس يجب أن ينضمَّ إلى عالم الأسطورة والوهم”، ويرى “ديز” أيضًا “أنَّ علم النفس لا يخرج عن كونه حشدًا متنافرًا من اجتهادات فكريَّة شديدة التبايُن والاختلاف، وأنَّ الطلاب الذين يدرسون مقرَّرات علم النفس التمهيديَّة يَشكون بشدَّة من أن مقرَّر علم النفس ما هو إلاَّ كومة من الأمشاج والأخلاط المتنافرة وغير المتماسكة.

 

إنَّ النظريات النفسية نظريات يغلب عليها البدائيَّة وليستْ ذات نفعٍ، كما أنه لا توجد في النظريات النفسيَّة طريقة مُتفق عليها؛ لتحديد وتقنين كافة الوصلات الرهيفة والدقيقة التي يزعم أصحابُها أنها قائمة بين المتغيِّرات المختلفة للنظرية”.

 

وصحيح أنَّ للنظريات النفسية فوائدَ متعددة ومتنوعة، لكن حقيقة هذه الفوائد هي أنها تسدُّ حاجات مرتبطة بالأسطورة أو بالتغيُّرات الأسطورية، ولَمَّا كانت الأساطير غير موضوعة لتعطينا معرفة، فإن قِيمتها المعرفيَّة متدنية، ولكنها وُضِعت وصُمِّمت؛ لإدخال الراحة والطمأنينة إلى القلب، ولتحقيق نوع من الإشباع الجمالي، وتبقى الحقيقة “أنَّ الحدَّ الفاصل بين النظرية والأسطورة ليس حدًّا بيِّنًا وقاطعًا”.

 

ثانيًا: أنَّ العقليَّة الأمريكية عقلية تهويليَّة، تَميل دائمًا إلى تضخيم كلِّ شيء؛ ولهذا فإننا نفهم ما جاء في تضخيم دور التحليلات النفسيَّة لشخصيات رؤساء الدول في ضوء طبيعة الثقافة والشخصية والعقليَّة الأمريكية، جاء في أحد المواقع الأمريكية التي تشرح بفخرٍ شديد العقلية الأمريكية، وطراز الحياة الأمريكي الآتي:

“في الولايات المتحدة الحجم هو كلُّ شيء، وما هو أكبر هو أفضل دائمًا، السيارات الكبيرة، المباني الضخمة، الصدور الكبيرة، المنازل الضخمة، البراميل الكبيرة، الوظائف الكبرى، شيكات الدفع بالأموال الكبيرة، المدن الكبرى، لاعبو الكرة الكبار، المدافع الثقيلة، المحلات الكبرى، كل شيء في الولايات المتحدة كبير، ثلاثة مصطلحات للأحجام تستخدم دائمًا: كبير، وضخم، وعملاق.

 

إن الولايات المتحدة هي أرض العمالقة، لا تستطيع أن تتخلَّص في الولايات المتحدة من عنصرين، هما: الحجم، والنوعيَّة، عنوان نجاحك في الحياة يعتمد على حجْم مكتبك، وعدد الأصفار في قيمة راتبك… إلخ”.

 

ونقتبس هنا هذه الكلمات المعبِّرة عن هذا الغرور الأمريكي والإحساس بالعَظَمة التي افتخَر أحد كبار العسكريين الأمريكيين، وهو “جون فاليلي” في مقالة له بعنوان: “الأمن القومي الجديد والإستراتيجيَّة العسكرية” في مارس 2010، يقول “فاليلي”: نحن الذين صنعْنا أعظمَ الاختراعات التكنولوجية لأنظمة الأسلحة – بَرًّا وبحرًا وجوًّا – وأعظم الاختراعات في أنظِمة الاتصال، والقيادة، وأنظمة المخابرات، لدَيْنا أعظم المخطِّطين للعمليات القتالية على كافَّة المستويات، ولدَيْنا أعظم القادة السياسيين في البيت الأبيض، وأعظم القادة العسكريين في البنتاجون، وأعظم المتخصِّصين في الأمن القومي، لدَيْنا العديد من القيادات العسكريَّة حولَ العالَم لحماية أمننا القومي، إنَّ لدينا من هذه القدرات والإمكانات ما لَدَى العالَم كله مجتمعًا، ليستْ هناك نقطة في العالَم لا نستطيع الوصولَ إليها في الوقت الذي نُريده، وليستْ هناك من دولة في العالَم قادرة على إعاقة تفوُّقنا أو أهدافنا، إذا ما أردْنا تغيير نظام حُكمٍ ما في العالَم، باستثناء تلك الدول التي تمتلك قوةً نوويَّة”.

 

يقول المفكرون الإسلاميون فيما نعتبره ردًّا على “فاليلي”: “لَم يكن أعداءُ الإسلام متفوقِّين عسكريًّا واقتصاديًّا فقط، لقد كانوا دائمًا أكثرَ عددًا، وأقوى عُدَّة، وأوفرَ مقدرات مادية على العموم، ليس اليوم فقط، ولكن منذ أن بدأت الدعوة للإسلام في الجزيرة العربية، أو في خارجها في زمن الفتوحات الكبرى بعد ذلك، وليس هذا في حقيقته تفوُّقًا؛ إنَّ التفوُّق الحقيقي والساحق للإسلام يكمُن في بنائه الرُّوحي والخُلُقي والاجتماعي، ومِن ثَمَّ السياسي والقيادي، وبهذا التفوق اجتاح الإسلامُ الجزيرةَ العربية أولاً، ثم اجتاحَ الإمبراطوريتَيْن العظيمتين الممتدَّتين حولَه: إمبراطوريتي كِسرى وقيصر ثانيًا، واجتاحَ بعد ذلك جوانبَ الأرض الأخرى؛ سواء كان معه جيش وسيف، أو كان معه مصحف وأذان.

 

ولولا هذا التفوُّق الساحق، ما وقعت الخارقة التي لَم يَعرفْ لها التاريخ نظيرًا، حتى في الاكْتِساحات العسكرية التاريخيَّة الشهيرة، كزَحْف التتار في التاريخ القديم، وزحْف الجيوش الهتلريَّة في التاريخ الحديث؛ ذلك أنَّه لَم يكن اكتساحًا عسكريًّا فحسب، ولكنَّه كان اكتساحًا عقديًّا، ثقافيًّا حضاريًّا، تجلَّى فيه التفوق الساحق الذي طوى – من غير إكراهٍ – عقائدَ الشعوب ولُغاتها، وعاداتها وتقاليدها، الأمر الذي لا نظيرَ له على الإطلاق في أيِّ اكتساح عسكري آخَرَ: قديمًا وحديثًا.

 

إنَّه – وإنْ كان ميزانُ القُوى بيننا وبين الغرب غير مُتَكافئ – فإنَّ القوة التي يستندُ إليها الغربُ هي قوةٌ مُؤَقَّتَةٌ، تستندُ إلى عواملَ مادية بَحْتة، وهذه العوامل من شأْنها ألاَّ تَدُومَ؛ لأنَّ فسادَ الحياة الاجتماعية والشُّعورية عند شعوبها سيقضي عليها، ولو بعد حينٍ.

 

إنَّنا مُطمئنون إلى وعْد الله القاطع وحُكمه الجامع في قوله – عزَّ وجلَّ -: ﴿وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً ﴾ [النساء: 141]، وهي تعني: أنَّ الله لن يسلِّطَ الكافرين على المسلمين تسليطَ استئصالٍ، وإن تغلَّبوا على المسلمين في بعض المعارك، وفي بعض الأحايين”.

 

يقول أحد المفكرين الإسلاميين: “إني أُقرِّر في ثقة بوعْد الله لا يُخالجها شكٌّ أنَّ الهزيمة لا تلحق بالمؤمنين، ولَم تلحقْ بهم في تاريخهم كلِّه، إلا وهناك ثغرةٌ في حقيقة الإيمان؛ إمَّا في الشعور، وإما في العمل، ومن الإيمان أخْذ العُدَّة، وإعداد القوَّة في كلِّ حين بنيَّة الجهاد في سبيل الله، وتحت هذه الرَّاية وحْدَها مجرَّدة من كلِّ إضافة ومن كلِّ شائبة يكون النصر، وبقدر هذه الثَّغْرة تكون الهزيمة الوقتيَّة، ثم يعود النصرُ للمؤمنين حين يُوجَدون”.

 

المصادر:

1- Thomas Omestal، Psychology and the CIA “Leaders on the couches.

2- The American style: Culture، politic، mentality and lifestyle.

3- أحمد إبراهيم خضر؛ أسطورة اسمها علم النفس، عُقم في النظرية، قصور في المنهج، سطحية في النتائج، وازدراء للدين.

4- أحمد إبراهيم خضر؛ قراءة في إستراتيجيَّة الحرب العالمية ضد الجهاد والشريعة والخلافة الكامنة.

5- مهند العزاوي؛ أساليب ووسائل تجسُّس وكالة المخابرات المركزية الأمريكية،