لغةالشعر بين التعطيل والتفعيل أ.د خضير درويش

لغةالشعر بين التعطيل والتفعيل

قراءة نقدية تحليلية في قصيدة د. محمد جاهين بدوي ..هنالك جنتي ..فيها سلامُ
                                                                        أ.د خضيردرويش

هُنَالِكَجَنَّتِي.. فِيهَا سَلاَمُ !.

على شَفَـتَيَّقَدْ وُئِـدَ الكَلاَمُ              وَفِي رِئَتَيَّ قَدْ بُعِـثَ الضِّرَامُ
وَفِيالتَّصْرِيحِ إِنْ أَفْضَيْتُ قَتْـلٌ          وَفِي الكِتْمَانِ إنْ أقْدِرْحِمَامُ
وَفِي التَّلْوِيحِ قَدْ أَكْدَيْتُ عَجْـزًا           فَـلاَ نـَثْــرٌحَـوَانِيَ أو نِظَــامُ
وَبَيْنَ يَدَيْكِ يا سُعْدَى حَيَـاتِي                ومَبْـدَاقِصَّـتِي فيهَا خِتَامُ
وَفِي شَفَتَيْكِ يا سُعْـدَى قضَاءٌ                تَنَـزَّلَ مَايُـرَدُّ ولا يُـرَامُ
قَضَائِي فِيكِ أَنْ أَحْيَا شَتِيتًا               بِبَيْنِالبَيْنِ.. لَيْسَ لِيَ التِئَامُ
قَضَائِي فِيكِ نَزْفٌ سَرْمَدِيّ                       فَآخِرُهُ كَأَوَّلِهِ احْتِدَامُ
قَضَائِي فِيكِ لَيْلاَتٌ ثُكَالَى                     عَمِيَّاتٌ.. وَإِصْبَاحٌ جَهَامُ
     وَأَوْرَادٌ تُتَمْتِمُ نَائِحَاتٌ                      وَمَوْءُودَاتُ عِشْقٍ،هَلْ تَنَامُ ؟!
أُقَضِّي العُمْرَ بَعْدَكِ نَوْحَرُوحٍ              وَيُؤْوِينِي التَّشَرُّدُ والهُيَامُ
تَبَارِيحِي تَسَابِيحِيوَسُـكْرِي              وَحُرْقَةُ مُهْجَتِي فِيكِ الْمُدَامُ
أَيَا سُعْدَى.. وَوَجْهُكِ لِي نُجُومِي             فَإِنْ أَفَلَتْ فَأَكْوَانِي القَتَامُ
أيَاسُعْدَى.. ومَا نَامَتْ جُرُوحِي        وإِنْ صُفَّتْ عَلَى قَبْريالرِّجَامُ
أَيَا سُعْدَى.. وَطَيْفُكِ لِي نَدِيمٌ                يُسَاقِينِي.. فَيَرْوِينِي الأُوَامُ
أَيَا سُعْدَى.. وَقَوْلُكِ: يَا حَبِيبِي                يُمَزِّقُنِي صَدَاهُ.. والغَرَامُ
ويَسْرِي فِي أَسَارِيرِي سَعِيرًا            لَهُفِي القَلْبِ عَصْفٌ وَاهْتِدَامُ
يُذَبِّحُنِي التَّذَكُّرُ كُلَّ نَبْض                     وَيَطْعَنُنِي بِأَوْرِدَتِي المَلاَمُ
وَتَجْلِدُنِي الدَّقَائِقُوَالثَّوَانِي             فَتَحْطِمُنِي.. وَيَحْطِمُنِي الحُطَامُ
وَتُقْرِئُنِيهُنَيْهَاتِي أَسَاهَا                  وَبَعْضُ هُنَيْهَةٍ فِي التِّيهِ عَامُ
تُطَوِّقُنِيأَفَاعِيَهَا اللَّيَالِي                        وَيُهْدِينِي أَسَاوِدَهُ الظَّلاَمُ
حَيَاةٌ بَرُّ بَهْجَتِهَا كَفُورٌ                         وَحِلُّ حُبُورِهَا فِيهَا حَرَامُ
وَعَذْبُفُرَاتِهَا مِلْحٌ أُجَاجٌ                      وَصِحَّةُ بُرْئِهَا فِيهَا سَقَامُ
دُعَاؤُكِ يَاسُعَيْدَى نَهْرُ وَجْدِي                   يُرَقْرِقُهُ بِأَحْنَائِي ضِرَامُ
أُرَتِّلُهُ بِأَسْحَارِي قَصِيدًا                      لَهُ فِي الكَوْنِ رَجْعٌ مُسْتَهَامُ
فَوَاتِحُهُ بِسَمْعِ الصَّخْرِ وَحْيٌ                     خَوَاتِمُهُ تَشَظٍّ وَانْفِصَامُ
وَبَيْنَهُمَا بَرَازِخُ لَيْسَ تَبْغِي                    وَبَعْضُ الكَلْمِ يَنْكَؤُهُ الكَلاَمُ !
وَفِيالتَّصْرِيحِ يَا سُعْدَايَ قَتْلٌ               وَفِي الكِتْمَانِ يَا وَيْلِي حِمَامُ !
وَفِي الحَالَيْنِ مُحْتَفَرٌ لِقَبْرِي                    هُنَالِكَ جَنَّتِي.. فِيهَاسَلاَمُ

   ما يلاحظ في مفتتح هذه القصيدة أن الشاعرعمد من مطلعها وحتى البيتالثالث إلى تعطيل الكلام على مستويات من المراحل المتدرجة .فهو يبدأفي مطلع قصيدته ، في شطرها الأول بتشكيل صورة تجريدية بالأسلوبالأستعاريالكنائي بتشخيصه الكلام ليتسنى له تعطيل فعله على المستوىالإجرائي . وقد تمكن من ذلك فتحقق التعطيل بأعلى درجاته التي يمثلهاالفعل الماضي المبني للمجهول ( وُئدَ ) ذلك إن وأدَ الكلام هو إسكاتهبأعلى وسيلة وهي القتل ، وهكذا أصبحت الشفتان غير قادرتين على نطق الكلاموهذا على المستوى الخارجي. وفي الشطر الثاني أراد الشاعر بيان درجةالشوق ومدى تأثيره إجرائياً على المستوى الداخلي فكان اضطرام النار فيالرئتين . وارى هنا لو أن الشاعر أبدل الفعل الماضي المبني للمجهول فيقوله ( بعُث الضرام ) الى  (شبَّ  ) لكان أجدى على المستويين اللغويوالإجرائي فالضرام أنسب له ان يشب هنا ولا يُبعث وليس في هذا خروج عنالوزن العروضي إذ لا ضير أن تتحول ( مفاعلتن ) إلى ( مفاعيلن ) فيموسيقى البحر الوافر .                     في البيت الثاني يحدد الشاعر مستويين من مستوياتتعطيل الكلام يمثل الشطر الأول المستوى الأول فيما يمثل الشطر الثانيالمستوى الثاني ، والبيت يشير إلى تشكيل موفق على المستويين اللغويوالإجرائي أيضا فقد تم تشكيل البيت بطريقة التضاد بين الشطرين ، ذلك إنالتصريح في الشطر الأول يقابله الكتمان إن استطاعه الشاعر في الشطرالثاني واللفظان على المستوى الإجرائي يُفضيان إلى النتيجة نفسها ألاوهي تعطيل الكلام فالتصريح يفضي إلى القتل والكتمان إلى الموت ،فالسكوت إذن أجدى في مثل هذا المقام ويمكن أن يكون ذلك على وفق المخطط التالي :                
 }                        
            التصريح       القتل   = {} الكتمان الحمام{                   

   وفيالبيت الثالث ينتقل إلى مرحلة أخرى من مراحل تعطيل الكلام وهي مرحلةالتلويح وكان أنسب لو كان تلميحا ، وهذا المستوى من الكلام لم يفلح فيهفقد عجز عنه فلم يتمكن من التبليغ بهذا المستوى من الخطاب لا نثراولاشعراً .ثم ينتقل الشاعر ليبين موضوع قصيدته الذي كان ( سعدى ) وأرىمن المناسب جداً ان تكون (سعدى) هي عنوان هذه القصيدة فهو يشير إلى إنوجوده مرتبط بهذه المرأة وبين يديها وهو يدرك ان بدايته معها كانت تحملخاتمتها أيضاً ، وهذا ما يؤكد حالة من التضاد على المستويين العقليوالنفسي فهو إذ يدرك صعوبة تحقيق ما يريد أو استحالته يصر على أن يكملبداية قصته التي تحمل نهايتها . ذلك إن شفتي ( سعدى ) تخبئان قراراً ،قضاءً محتوماُ فلا رجوع عنه ولا بالإمكان الوصول إليه بغية تغيره . لقدأبان الشاعر في هذا البيت: وبين يديك ياسعدى قضاءٌ       تنزّل مايُرد ولايُرامُ

حتمية وقوع هذا القضاء جملة ثم ذهب في الأبيات التي تليهإلى التصريح بتفصيلات هذا القضاء ، وهو انتقال من الكلي إلى الجزئي ولذلكنراه يعتمد أسلوب التكرار لإيصال مايريد فيكرر لفظ قضائي في مستهلثلاثة أبيات ويحدد في كل بيت نوع ذلك القضاء على المستوى الإجرائي .فمضمون القضاء في البيت الأول هو تشتت وتوزع الذات إلى غير اجتماع إذيقول :
قضائي فيك أن أحيا شتيتا            ببين البين ليس لي التئامُ
أمانوع القضاء في البيت الذي يليه فهو نزف دائم ملتهب لا يُعرف أوله من أخره فهما متساويان .
قضائي فيك نزفٌ سرمديٌ                فآخرهُ كأولهاحتدامُ
    أما نوع القضاء الأخر فهو قضاء على المستوى الزمني . وهناحسنا ًفعل الشاعر باستعماله التجزئة للارتقاء بحالة الحزن الى مدياتهاالعليا اذ جزأ اليوم الى نصفيه الليل والنهار وعلق كل وقت بما يناسبهعلى المستوى الشعوري فقال :
قضائي فيك ليلاتٌ ثكالى                عمياتٌ وإصباحٌجهامُ
فالليل ثكل وعمىً جاء بتأثيره أما النهار فهو نهار جافعابس.
  وبعد ان يرى ان قصته مع (سعدى) قضاء مفروغ من وقوعه يذهب إلىفعل ما يراه على المستوى الإجرائي بتأثير ذلك القضاء ، فيعمد إلى وسيلةالتجسيد فيؤنسن ( الأوراد ) بطريقة الاستعارة المكنية ليجعلها تتمتموتنوح ، وهو إنما قصد بها نفسه بتأثير قضاء سعدى وحاله ايضاً التي هيكـ ( حال ) المذبوحات عشقاً
فأنى لعيونها أن تنام ، وهو بعدها روحهائمة لا مستقر لها إذ يقول :
أقضي العمربعدك نوحُ روح            ويؤوينيالتشردُ والهيامُ
   وحسناً فعل الشاعر في الشطر الثاني حينما أسندعملية الإيواء على المستوى الإجرائي إلى التشرد والهيام .

     لقد انزاحالكلام عن المألوف هنا فحقق جمالاً على المستوى التشكيلي وعلى مستوىالدلالة أيضاً. ذلك إن الإيواء يحملُ في دلالته مايحمي ويحفظ ولكنه جاءهنا بفعل هذا التشكيل ليؤكد حالة مضادة هي حالة التوزع والتشتت لتحقيقالانسجام مع الشطر الأول وللارتقاء إلى درجة أعلى من الحزن والتوجع .
     ثم يتوجه بالخطاب إلى ( سعدى ) فيكرر اسمها أربع مرات ويسبقه بحرفالنداء ( يا ) المسبوق بأداة الاستفتاح لكي يمهد للبوح بمعاناته، فهو فيالبيت الأول يرى في وجهها النجوم التي اذا ما أفلت تحولت الدنيابناظريه الى ظلام دامس وهو في البيت الثاني :
أياسُعدى..ومانامت جروحي         وإن صُفت على قبري الرجامُ
   هنا يشخص الجروح فيسند لها النوم المنفيباستعماله ما النافية عن طريق الاستعارة الكنائية ، وقد أراد عدماندمالها ليس إلى الممات وإنما حتى بعد موته ودفنه، وهذا ما يتأكد فيالشطر الثاني . وهكذا فان الجراح التي تركتها سُعدى له ستبقى نازفة حتىوهو في ثراه.

   ثم يذهب في البيت الثالث إلى إيجاد معادل للتعويض عن حالةالإحباط التي تنتابه ، فلم يجد غير طيفها معادلاً فيجعله النديم الذييسقيه ويتسامر معه ، وهنا تتساوى حالة الظمأ مع حالة السُقيا على المستوىالاجرائي والدلالي أيضاً ، ذلك ان الساقي هنا ما هو الاّ الظمأ الشديدنفسه وبالنتيجة لا تكون هناك حالة سقي لأجل الإرواء وإنما لأجل المزيدمن الظمأ. ويستذكر من سعدى في البيت الرابع مناداتها له بـ (ياحبيبي)التي تؤجج مشاعره وتذكي نار الغرام بداخله فتعصف به الأشواق بأعلىدرجاتها . وهو إذ يلجأ إلى حالة الاسترجاع أو الاستذكار يحسبها بحسابنبضه وبحساب الدقائق والثواني . ثم يوجه الخطاب للحديث عن اغترابهبعدها فيقرن ذلك بالطبيعة بعنصرها الحيواني في البيت الأتي :
تطوقني أفاعيها الليالي                  ويهديني أساوده الظلامُ
  هنا نرى إنالشطر الأول قد تطابق مع الشطر الثاني على مستوى الدلالة وعلى مستوىالتشكيل اللفظي وهذا ما ارتقى بالمستوى الفني للبيت من اجل تأكيد حالةالاغتراب التي يواجهها الشاعر ولتصويرمديات الحزن الذي يكابده . ذلك إن الفعل المضارع المتصلبالضمير ياء المتكلم ( تطوقني ) يقابله الفعل ( يهديني ) وهما يحملانالدلالة نفسها في كلا الشطرين ، والأفاعي يقابلها الأساود وهي نفسُهاأيضاً ، كما ان الليالي يقابلها الظلام . وقد كان لأسلوب التشخيص الذياستعمله الشاعر لليالي في الشطر الأول وتعليق الأفاعي بها والظلام فيالشطر الثاني وتعليق الأساود به التأثير الكبير في تصوير حالة الاغترابوالحزن عنده.
  وهكذا فهو لايرى للحياة طعماً بعدها فحتى الفرات العذبأصبح ملحاً أجاجاً بغيرها ، ولم يجد في نهاية الأمر إلا إن يستذكردعاءها إذ يقول :
دعاؤك ياسعيدى نهرُوجدي             يرقرقه بأحنائيضرامُ
   فهو إذ يصغر ( سعدى ) للتحبب هنا يحول دعاءها إلى نهر منالأشواق التي ينسبها إليه ثم يجعل في جريانه ناراً بداخلهِ تذكي مشاعرهوتؤجج عاطفتهُ.
  إن تفاعله مع دعاء سعدى جاء على مستويين : الأول استذكاريوالثاني أدائي فهو لم يستذكر دعاءها حسب وإنما يردده كما يقرأالشعر، وهنا تتشكل معادلة متوازنة مفادها ان علاقة الشاعر بدعاء سعدىتساوي علاقته بالشعر ولذلك فهو يسعى الى ترتيله في الوقت المناسبالمنتقى وقت السحر .
  واذ يذهب الى رسم صورة وصفية لهذا الدعاء نراهيعمد إلى توكيد القيمة العليا للدعاء من خلال تقسيمه على ثلاثةأقسام هي : المقدمة وما بعدها والخاتمة . ثم يرسم صورة وصفية لكل قسممن هذه الأقسام فـ (عن) المقدمة والخاتمة يقول :
فواتحهُ بسمعالصخروحيٌ              خواتمهُ تشظٍ وإنفصامُ
   فهو يشخص الصخر ليعلق السمع به عنطريق الإضافة ليرفع من درجة تأثير فاتحة الدعاء عندما يجعل تأثيرها كماالوحي في مما يعد من عناصر الطبيعة الجامدة أو من أكثرها جموداً وهوالصخر . أما الخاتمة فان تأثيرها يتجسد على المستوى الإجرائي بالتجزءوالانفصام الذي يصل الى درجة التشظي . أما ما بين المقدمة والخاتمة فهومما لا يمكن الإحاطة به وهذا ما ينسحبُ على درجة تأثيره أيضاً . ثميأتي ختام القصيدة بالعود إلى بدايتها إذ يقول :
وفي التصريحياسعداي قتلٌ          وفي الكتمان ياويلي حمامُ
  فهو بعد أن ينسب سعدى لهباستعماله ياء النسب بقوله ( ياسُعداي ) أراد أن يكون تعطيل الكلامخاتمة للقصيدة كما كان مفتتحاً لها ، كما إن النتيجة التي أفضى إليهاالتصريح والتلميح في بداية القصيدة هي نفسها في خاتمة القصيدة . فالتصريح أو الكتمان يفضيان إلى نتيجة واحدة هي الموت . واذ يدركالشاعر حتمية ملاقاة هذا المصير يسعى إلى التهوين من نتائجه علىالمستوى الإجرائي إذ يقول:
وفي الحالين مُحتفرٌلقبري                هنالك جنتيفيها..سلامُ
  إذ يساوي بين موته وبين فوزه بالجنة . فهناك يتحولالكتمان إلى التصريح فَيُفَعّلُ ما كان معطلاً
…… .