الفاعلية السياسية (البعد السياسي في تركيب الشخصية) د. كينث برويت

ظهر مفهوم الفاعلية السياسية في ظل تطور دراسات علم النفس السياسي في وسط ونهاية القرن العشرين ، إذ توجه علماء النفس في نهاية هذا القرن نحو تعرف الابنية النفسية المسؤولة عن معتقدات الافراد حول كفايتهم وقدراتهم في تغير النظم السياسية الظالمة والمجحفة وبناء نظم سياسية ديمقراطية جديدة تحترم الانسان وتوفر كافة حقوقه ، وبهذا نشأ مفهوم الفاعلية السياسية أثر الدراسات التي قدمها (Campbell, Gurin and Miller, Lane ,1959., 1954,Balch, 1974; McPherson, Miller, Welch, & Clark, 1977,) في مجال السلوك السياسي political behaviour والتنشئة السياسية political socialization ، ويشير هؤلاء الى ان هذا المفهوم يمارس أثرا كبيرا بحدوث التغيير الاجتماعي والسياسي في دول العالم Campbell, Gurin and Miller, 1954, p. 187)) ومؤشرا كبيرا على مشاركة الافراد السياسية في الحكومة والانتخابات والسلوكيات الاحتجاجية Abramson and Aldrich, 1982, Finkel, 1985)) ، وبهذا الصدد عرف (Campbell, Gurin and Miller, 1954) هذا المفهوم بأنه شعور الفرد بإمكانية حدوث التغيير السياسي والاجتماعي ، وانه كمواطن يمكنه ان يمارس دورا في المساهمة بهذا التغيير ، بينما يعرفه Lasswell,1954 بأنه شعور المواطن حول تأثير افعاله على الاحداث السياسية ، كذلك هو اعتقاد الشخص بان التغيرات السياسية والاجتماعية يمكن ان تتم بجهوده وبالتعاون مع الاخرين . وقسم عالم النفس Robert Lane, 1959 الفاعلية السياسية على نوعين ، يتمثل النوع الاول بالفاعلية الداخلية internal efficacy (شعور الفرد بان لديه الكفاية على المشاركة في عمليات اتخاذ القرار السياسي) والفاعلية الخارجية external efficacy (اعتقاد الفرد بان الحكومة ستستجيب لمطالبه وتتقبل اراءه ومساهمته السياسية)
تعود جذور الفاعلية Efficacy في علم النفس الى دراسات علم النفس الاجتماعي ، كذلك ترتبط ارتباطا وثيقا بـ قوة الانا ego strength والكفاية الشخصية subjective competence والثقة بالذات self-confidence والفاعلية الشخصية personal effectiveness ، وبما أن الفاعلية تتعلق بإمكانية وتفاعل الفرد مع البيئة الخارجية ، فان مفهوم الفاعلية السياسية لها اهمية خاصة تتعلق بتقييم السلوك في الانظمة الديمقراطية ، إذ تظهر قيمتها من خلال مشاركة الفرد بالسياسة العامة للدولة والتعبير عن الحاجات السياسية ، فضلا عن ان الفرد الفاعل سياسيا يتسم بمجموعة من السمات الايجابية ، إذ يمتلك ذاتا سياسية لها رأيا مؤثرا وفاعلا في صنع القرارات العامة للمجتمع ، ويتسم بالقوة والكفاية والاهمية ، ولديه مجموعات من التوقعات الذكية فيما يتعلق بالقادة السياسيين ، ويظهر حساسية وقلقا حول اصواته الانتخابي ومدى تأكيد مطالبه السياسية ، لذا فان هذه التقييمات الذاتية والتوجه نحو السلطات السياسية political authorities تتعلق بمجموعة عامة من الاتجاهات بشأن النظام السياسي political system ، وتظهر من خلال المشاركة في التظاهرات والاحتجاجات والتصويت على القادة والدوائر الانتخابية ومحاسبة المسؤولين .
ويجب الانتباه الى قضية مهمة : ان مفهوم الفاعلية السياسية ليست كمفهوم الاحساس بالالتزام المدني sense of civic obligation فالأخيرة يمكن ان تحفز النشاط السياسي ولكنها لا تشعر المواطن بأن لديه الامكانية والقدرة على التأثير السياسي ، بمعنى أخر أنه لا يمتلك ابعاد الفاعلية السياسية مثل المشاركة Involvement والاهتمام interest والخوف concern على المستقبل السياسي للدولة ، كذلك من اوجه المقارنة ان الاحساس بالالتزام المدني مؤقت وقد يوجه نحو قضية سياسية معينة بينما تتضمن الفاعلية السياسية توجها عاما نحو مختلف القضايا والمواضيع السياسية ، وهي ثابتة بصورة نسبيا مع مرور الزمن .
وبما أن الفاعلية السياسية تشير الى تصورات الفرد حول كفايته الذاتية وليس الى تأثيره الفعلي ، فأن من المحتمل أن يخطأ الافراد في تقييمهم لأهميتهم السياسية من خلال تقليل أو زيادة المدى الذي يكونون فيه مسؤولين عن حساسيتهم بحق المطالبة عن قضاياهم السياسية أي بمعنى تقدير مدى امكانيتهم في الاستجابة والتأثير في القضايا السياسية ، وبذلك قد لا يتطابق تقييمهم لمدى تأثيرهم السياسي على ما يقومون به من انشطة ومشاركات سياسية واجتماعية على أرض الواقع ، ومن المحتمل جدا ان تنمو وتتعزز مشاعرهم حول كفايتهم في السياق الذي يشهد فيه الافراد تحول رغباتهم الى حقائق .
ورغم ذلك فأن الفاعلية السياسية لها تطبيقات في النظم الديمقراطية ، والكيفية التي يشعر بها المواطن بفاعليته المشروط بتوفر القنوات المؤسسية للتعبير عن مطالبه ، واعتقاده بان الدولة تتطلب قادة يحتملون المسؤولية ويستجيبون له.
وبهذا الصدد ركزت الدراسات على الفاعلية السياسية لدى الافراد في ضوء الاجابة على ثلاثة تساؤلات مهمة :
أ. ما هي الشروط السابقة (الاسبقيات) التي تقدر لنا توزيع (انتشار) الفاعلية السياسية بين الافراد؟
ب. كيف تفسر لنا البيانات المتعلقة بالفاعلية السياسية اتجاهات الاخرين وسلوكياتهم السياسية؟
ج. ما هي النتائج المترتبة لتوزيع (انتشار) الفاعلية السياسية على وظيفة النظام السياسي بشكل عام ؟
– اسبقيات الفاعلية السياسية :
ساهمت دراسات السلوك الانتخابي الامريكي عبر مركز البحوث المسحية في جامعة ميشيغان في تقديم دليل منهجي حول اسبقيات الفاعلية السياسية لدى افراد المجتمع (Campbell et al. 1954; Michigan, University of 1960) ويرى هذا الدليل ان الفرد الذي يشعر بانه يمكنه مواجهة التعقيدات السياسية ، ويعتقد بان مشاركته تحمل وزنا في العملية السياسية يكون فردا متعلما بشكل جيد ، ولديه مكانة اجتماعية واقتصادية مرتفعة ، ومن المحتمل ان يكون عضوا ضمن جماعة الاغلبية (الدينية والعرقية) اكثر من المواطن الاقل فاعلية ، لذا فأن هذه الشروط الاجتماعية السابقة (التعليم ، المكانة ، الانتماء الاجتماعي) تجعلنا نتنبأ بأن سيادة أحد جوانب الحياة الاجتماعية ينتج عنه الاحساس بالسيطرة والفاعلية على الحياة بشكل عام ، والذي يعمم الى المجال السياسي .
وقد دعمت نتائج الدراسات عبر الثقافية هذا الرأي ، إذ وجد في خمسة دول تتمتع بالديمقراطية ان هناك علاقة ارتباطية مرتفعة بين التعليم والمكانة الاجتماعية والاقتصادية الجيدة مع نسب الفاعلية السياسة ، إذ ان المستويات المختلفة للثقة السياسية political confidence بين المواطن والدولة تعتمد بدرجة كبيرة على الاختلافات التربوية والفروق الثقافية بين المجتمعات ، فضلا عن تزود المواطن بالمهارات الضرورية والثقافة اللازمة لممارسة الحقوق السياسية ، كذلك يساهم التعليم بشكل خاص بالإحساس العام بالأمن الذي يجعلنا نتفاعل بشكل مريح مع نظمنا السياسية ، وهذا في الحقيقة يدعم مقترحنا بان التعليم المتقدم يعد احد العوامل المهمة التي تساهم بظهور الفاعلية السياسية بدرجة مرتفعة ، لان المواطنين المتعلمين ينتخبون مؤسسات سياسية تسمح لهم بالمشاركة والتعبير عن آرائهم السياسية . وبهذا نتوقع ان المواطن الذي تشجعه الخبرات العائلية والمدرسية في التعبير عما يفضله ويرغب به من المحتمل (بدرجة كبيرة) ان يشعر بفاعليته في الحياة السياسية ، وحتى لو نشأ الفرد في ظل ظروف استبدادية وقاهرة فأن الفرد الذي يتلقى تعليما تربويا جيدا يكون اكثر كفاءة من الفرد الاقل تعليما (Almond & Verba 1963, pp. 204—209)..
ورغم ذلك فان هناك القليل من الادلة حول مساهمة الاسبقيات النفسية في الفاعلية السياسية political efficacy ، لذلك يقترح التنظير الحالي ان امكانية الفرد لتأكيد ذاته في السياسة يتعلق بقوة الانا (القدرة على التكيف مع الاحداث الخارجية والسيطرة على الاندفاعات الشخصية) (Lane 1959, p. 147) وهو بعد يقترح ان البناء النفسي الذي يتوافق او ينسجم مع التقديرات المرتفعة للذات self ويبعث على مشاعر الكفاية في العالم السياسي political world يتلائم مع النشاط في الانظمة الديمقراطية في حين لا يتوقع ان يرضى الافراد المتسلطون على النظم السياسية التي تهتم وتضع قيمة للتفاوض والتفاهم والتسوية (Lasswell 1954) . هناك ايضا اهتمام قليل حول تأثير العوامل المتعلقة بالمؤسسات على الفاعلية السياسية ، على اية حال وجدت دراسة (Almond & Verba 1963) ان الموظفين الذين يعملون في السلطات المحلية يميلون الى ان يكونوا اكثر شعورا بالكفاية السياسية من الموظفين الذين يعملون في السلطات الوطنية (الحكومية) .
– الفوائد التفسيرية للفاعلية السياسية:
إن استعمال الفاعلية السياسية كمتغير مستقل من اجل تحليل السلوك السياسي له نتائج مثمرة في تفسير نسب المشاركة السياسية political participation وتقييم معدل المشاركة في الانتخابات الحكومية ، إذ لا يتوقع مقياس الفاعلية السياسية نسبة الاقبال على التصويت فقط وإنما المساهمة في انشطة سياسية وديموقراطية اكثر تعقيدا كمناقشة القضايا السياسية والتبرع بالمال وتطوع الافراد كمراقبين في الدوائر الانتخابية ؛ وعلى الرغم من ان الافراد المتعلمين يميلون الى احراز درجات مرتفعة على مقياس الفاعلية السياسية اكثر بكثير من الافراد غير المتعلمين فاننا نجد ان بعض المتعلمين يتخذون موقف متهكما او ساخرا cynical نحو فاعليتهم السياسية في عملية التصويت ، ولكن ذلك لا يعني ان التعليم لا يوجد له تأثير على المشاركة السياسية وإنما يمارس دورا مؤثرا على عدد كبير من الافراد .
فضلا عن ذلك وجدت دراسة ((Eulau & Schneider 1956 ان المصوتين في الانتخابات الحكومية يمكن تقسيمهم على وفق مقياس الترابط السياسي (القرابة السياسية) political relatedness (تشارك المواطنين في عواطفهم وافكارهم تجاه القضايا السياسية) ، فالمفهوم يدمج الفاعلية السياسية مع واجب المواطن تجاه الحزب والدولة ، إذ عن طريق اختبار شدة ونسبة النشاط السياسي فان هذا المقياس يساعد على تفسير ابعاد متنوعة من المشاركة في الانتخاب السياسي ، على سبيل المثال ان المواطنين الذي يحرزون درجة مرتفعة على مقياس الترابط السياسي يكونون اكثر تحييزا وحساسية للفروق بين الاحزاب السياسية، واكثر توجها نحو تحقيق تطلعاتهم السياسية ، وكذلك اكثر خوفا من نتائج الانتخابات ، إذ يشعر هؤلاء بتعريف عال لهويتهم الحزبية ، ولديهم اهتمامات كبيرة بمصالحهم الحزبية ، ومعرفة حول المرشحين والحملات السياسية ، وعرض انفسهم في القنوات الاعلامية اكثر من الافراد الذين يحرزون درجات متدنية على مقياس الترابط السياسي.
كذلك تكشف النتائج ذات العلاقة بالنظام السياسي أن من خلال تقييم نوعية مشاركة المواطنين في الثقافة السياسية فإننا نجد ان علماء النفس يؤكدون أن أكثر الافراد الذين يمكن ان يعتبروا أنفسهم قادرين على التأثير في القرارات السياسية، ويكونون راضين بدرجة مرتفعة على النظام السياسي العام فانه على الأرجح يقدرون أداء السلطات بإيجابية ، لذا فان هذه العلاقة الوثيقة بين الفاعلية السياسية ومشاعر الرضا العامة لها تطبيقات مهمة في حل المشكلات والدعم السياسي في الدول الديمقراطية ، ورغم ذلك فان (Almond & Verba 1963) قدما دليلا بأن هناك فجوة كبيرة بين تصورات المواطنين حول قدراتهم في التأثير على القرارات وممارستهم الفعلية لتحقيق ودعم الاصلاحات السياسية ، وهذه الفجوة لا يمكن ان نعتبرها أمرا سلبيا فقد تكون صحية في النظم الديمقراطية .
علي أية حال تشير الدراسات ان توزيع الفاعلية السياسية بين السكان يؤثر على نوعية التصويت الانتخابي (Janowitz & Marvick 1956) فالشخص الذي يفقد ثقته بالقدرة على التأثير السياسي سيمتثل الى اراء الاخرين في جماعته ولا يكون له رأيا سياسيا مستقلا ومؤثرا ، كذلك وجدت احدى الدراسات ان هناك علاقة ايجابية بين متلازمة التسلط authoritarian syndrome وتدني الفاعلية السياسية ، إذ ان الفرد الذي يشعر بالعجز حول دوره السياسي يهيئه الى ان يكون أقل منطقية وأكثر جمودا في البحث عن الاجوبة للمشكلات السياسية ، فضلا عن ذلك ان المواطن الذي يفتقر للثقة بإمكانياته السياسية يكون عرضه للخداع السياسي من قبل المرشحين السياسيين .
– الاستعمالات الخاصة للفاعلية السياسية :
اثبتت الدراسات أن لمفهوم الفاعلية السياسية فائدة في دراسة امكانيات بعض المسؤولين السياسيين في المؤسسات القانونية والقضائية والسياسية ، فعلى سبيل المثال ان تحليل مفهوم السلوك القانوني وفق الفاعلية السياسية يعرف بانه احساس النائب والمشرع الحكومي بفاعليته على أداء دوره المهني والسياسي (Wahlke et al. 1962) لذا ترتكز الفاعلية السياسية هنا بإحساس المشرعين او المسؤولين الحكوميين بإمكانياتهم وقدراتهم وثقتهم بأنفسهم على القيام بمهامهم الوظيفية ، تشير الدراسات هنا الى نتائج مهمة ، هي :
– كلما كان المسؤول السياسي ذو كفاية وواثقا من امكانياته ومهاراته فانه سيكون مبدعا وناجحا في حل المشكلات والصراعات في الميدان السياسي اكثر من المسؤول السياسي الاقل فاعلية .
– كلما كان المسؤول ينتمي الى حزب الاغلبية السياسية في الدولة فانه يشعر باحساسا كبيرا بالثقة والفاعلية السياسية من المسؤول السياسي في حزب الاقلية .
– ان السياسيين الشباب من ذوي الفاعلية السياسية المرتفعة يكونون اكثر نجاحا وطموحا في المستقبل وتحقيق للأهداف العامة للدولة ضمن الحياة السياسية من المسؤولين الشباب الاقل فاعلية.
إن رغم ما توصلت اليه الدراسات في علم النفس السياسي من نتائج حول تعرف الفاعلية السياسية لدى المواطنين والمسؤولين إلا أن هناك بعض التساؤلات ما زالت تحتاج الى اجابة وبحث ، فهل تؤثر النظم والابنية الديمقراطية على انماط الفاعلية السياسية؟ ، وما مدى تأثير الدوافع والانفعالات في الكفاية السياسية؟ ، وهل ان الاختلاف في انماط الفاعلية السياسية تؤثر على تعبير القادة السياسيين عن افكارهم ومخرجاتهم السياسية؟ ، وما مدى تأثير التغيرات التي تحدث في أبنية المؤسسات الحكومية ونظمها السياسية على الشعور بالفاعلية؟ لذا ما زال البحث في هذا الموضوع يحتاج الى جهود الباحثين ، وما قدمناه سابقا هو عرض للدراسات حول كيفية تأثير الفاعلية السياسية في شعور المواطنين بقيمتهم السياسية وقدرات السياسيين في المجال السياسي والحكومي .

الفاعلية السياسية (البعد السياسي في تركيب الشخصية) د. كينث برويت مصدر المقالة

لمزيد من المعلومات حول الموضوع يرجى مراجعة الرابط التالي :

الفاعلية السياسية (البعد السياسي في تركيب الشخصية) د. كينث برويت